أثير الهاشمي
لمفردة "المفتاح" رمزيَّة عالقة في الذهن، منذ القدم، فأجدادنا اعتادوا على أهميتهِ، سواء في الوصول إلى حاجاتِهم المخبّأة، أم في تخيّل تجلياته الظاهرة؛ فكان رمزاً لجداتنا في الاحتفاظ بالحاجات الثمينة، من خلال صناديق صغيرة قديمة، ومن ثمَّ تطورت هذه الكلمة، حتى أصبحت تمثل رمزيات مختلفة، يوظفها الإنسان أنى شاء في حياته.
أصبحت لمفردة "المفتاح" فيما بعد، رمزيَّة كبيرة عند الشعراء والكُتّاب، فصاروا يوظّفوه في نصوصهم؛ إشارة منهم إلى تجليات مختلفة، منها ما يقع ضمن رمزيَّة العقل، أو ما يدور في هواجس القلب، أو ما يشتمل على خاصية الروح، أو ما يكون رابطاً بين الشخص وذاته، وما شابه.
ذكرَ الأدباء والشعراء مفردة "المفتاح" برمزيات جمّة، تُوظّف كلّ رمزيّة على وفق أدوات معينة، ورؤى منوّعة، إذ كتب عددٌ من منهم رواياته وقصصه وقصائده الشعريّة من خلال رمزيّة المفتاح بصورتهِ الصريحة أو غير الصريحة، ومن أبرز تلك النصوص، رواية "المفتاح" للكاتب الياباني جونتيشيرو تانيزاكي، ورواية "المفتاح" للكاتبة البريطانية كاثرين هيوز، وغيرها من الروايات والقصص التي حملت العنوان نفسه، في تضمين لرمزيّة "المفتاح" ورؤية رئيسة في النص، لكن بتجليات مختلفة، تخوض مسائل الحياة وما يدور فيها من خفايا غير ظاهرة، وظواهر غير معلنة، فضلاً عن الدخول في عالم المسكوت عنه، وغيرها.
عمدَ العديد من الشعراء لتجسيد كلمة المفتاح باعتبارات متعددة، ورؤى مختلفة، وسلوكيات مقصودة، وأحلام مفعمة بالتخييل، ومنهم الشاعر صالح بن عبد القدوس، إذ يقول: "وَإِن لِسانُ المَرءِ مِفتاح قَلبِه/ اِذا هوَ أَبدى ما يَجن مِن الغَم". يجعل عبد القدوس "مفتاح القلب" مُعادلاً لِــ "لسان المرء"، أي ما يُخبّئه القلب من أحاسيس ومشاعر، تُضفي باللسان لبوح ما يجول في خواطر القلب، فيُعطي الشاعر للنصّ رؤية وجدانيّة ظاهرة، مقابل ما يُخفيه "القلب" من عاطفة واضحة.
ويوظّف الشاعر محمود درويش، رمزية المفتاح في نصّه، الذي يقول فيه: "كان الجسرُ نعساناً، وكان الليل قبَّعةً/ وبعد دقائق يصلون، هل في البيت ماء؟/ وتحسّس المفتاح ثم تلا من القرآن آية...".. "قال الشيخ منتعشاً: وكم من منزل في الأرض/ يألفه الفتى/ قالت: ولكن المنازل يا أبي أطلالُ!/ فأجاب: تبنيها يدانِ../ ولم يتمَّ حديثه، إذ صاح صوت في الطريق: تعالوا!".
يُشير درويش في نصّه الشعري إلى رمزية "المفتاح" بوصفه علامة مهمة في النصّ، تُضفي إلى أهمية هذه الكلمة من مغزى؛ لما تُجسّده من معانٍ يتخيّلها المتلقي من خلال فهمه للنص، حتى في تحسّس الشاعر إلى المفردة بعاطفة صوريَّة درامية، وبلغة بلاغيّة تامّة "كان الجسر نعساناً، وكان الليل قبعة/ تحسّس المفتاح ثم تلا من القرآن آية".
إنّ الخوض في معنى المفردات بحسّاسية رمزيّة، يُعطي الانطباع المتفاوت في تلقي النص وتقبّله على أمل فهمه لا رفضه.
ويؤكّد الشاعر نزار قباني، على رمزية مفردة "المفتاح" مقابل رمزية كلمة "القفل" في التشكيل المُنضبط للعلاقة بين اللفظ ومعناه، إذ يتشكّل نصّه قباني على وفق عدة تجليات؛ تُسهم في خلق النص صورة درامية شعرية مؤثرة، إذ يقول: "فما زالت بداخلنا، وما زلنا/ نعيش بمنطق المفتاح والقفل/ نلف نساءنا بالقطن/ ندفنهن في الرمل/ ونملكهن كالسجاد/ كالأبقار في الحقل/ ونهزأ من قوارير/ بلا دينٍ ولا عقل".
يُعطي الشاعر قباني رمزية مفعمة بالحركية لكلمتي "المفتاح/ القفل"، بدلالتين مفهومتين في التقارب لا التنافر فيما بينهما، إذ يوردهما على أساس المنطق الخاص بهما، كمفردتين أو رمزين يظهران كلفظين يُفصحان عن الواقع، وقت اختفاء المعنى، رابطاً إيّاهما بمعنى الثنائية البصريّة بين الإنسان والآخر.
وفي المعنى نفسه، نجد الشاعر سركون بولص، يُجسّد في أحد نصوصه، لفظ المفتاح تحت رمزيّة "القفل/ الباب" مقابل "الاغلاق/ الفتح" ليكون هاجس اللغة مضيئاً بالخروج، مقابل عتمة الدخول، مُحاطة بالقفل والباب: "من هاجرَ، لم يجد الأرضَ الموعودة/ تكلّمْ، ماذا ستقول/ أو لا تتكلّم، واصغِ إلى الهدير/ الى أيّ صوتٍ يأتيكَ من هناك/ آنذاك، يمكنك أن ترمي/ بمفتاحك في هذا البحر/ طالما: لا القفلَ في الباب، لا الباب/ في البيتِ، لا البيت هناك".
يُضفي الشاعر سركون بولص لغته بما يشاء من التقارب في الألفاظ، لا الابتعاد عن المعنى، إذ يخلق الشاعر تخييلاً جليّاً لصوره الشعرية المركبة في النص، من خلال ما ينقله لغياب أهمية "المفتاح"؛ وما يقابله من زوال أثر المكان، إذ تبدأ الألفاظ من خلال تسلسل المعاني، فــ "لا قفل في الباب، ولا باب في البيت، ولا بيت هناك، فما فائدة المفتاح إذن؟"، هذا هو السؤال البريء الذي يشكّله الشاعر في ذهن المتلقي؛ من أجل إيجاد إجابات جادّة، تُحاكي هواجسه، وتردّ إليه وحشة المعنى.
ومن تلك الفكرة أيضا، يقترب الشاعر مظفر النواب، فيؤكّد في نصّ درامي، لحظات جليّة لرمزية (المفتاح)، مُعادلاً لمضامين مهمة: "حبيبتي/ بالأمس قد عبرت جسر اليأس والرياح/ لم يكن في الطريق غير المخبرين والنباح/ سألتهم إن وجدوا هويتي/ ودفتر الديوان والمفتاح/ فقلبوا شفاههم وألقوا القبض عليَّ/ وأودعوني غرفة التوقيف".
يستلهم الشعر أبواباً من الهواجس المفعمة بروح اللغة، إذ يحاول الشاعر أن يطرقها؛ محاولة منه، للولوج إلى عالمه الذي يرغب به، والهروب من واقع يُهيمن عليه هواجس الخوف والقلق واليأس والمخبرين وأصوات النباح، مقابل العبور نحو الطريق الآمن، والهوية المُصانة، والمفتاح الصريح؛ لأجل أبواب غير موصدة، ثم يصوّر الشاعر الريح التي تمرّ عليه وعلى مَن معه، وهم ينعمون بالحرية والطمأنينة، لا الخوف والسجن وبلوغ الحياة من دون هوية، ينتمي لها المرء، فيعرف نفسه قبل معرفة الآخرين، في زمنٍ لا يعي منه إلّا القلق في السؤال، والحيرة في الجواب.
أما نحن لم نزل هنا، نراوح، لكننا نظلّ نبحث عن (مفتاحٍ)، يفتح لنا الأبواب الموصدة؛ علّنا ننعم بعالم مثاليّ يُليق بما نأمل.