دونالد ترامب وأبرز مهام المرحلة الانتقالية
جواد علي كسار
تضع المرحلة الانتقالية في تقاليد الرئاسة الأميركية مجموعة مهام أمام الرئيس الفائز، تتحرّك في المدة بين فوزه وأداء اليمين وتسلمه الإدارة فعلياً في (20) كانون الثاني من السنة التالية، لا يشذ عن هذه التقاليد الفائز الجمهوري الحالي دونالد ترامب. المهمة الرئيسية الأولى التي تتصدر المرحلة الانتقالية هي بناء الإدارة الاتحادية في واشنطن، ومن خلالها يمكن استشراف الاتجاهات البارزة في السياسات الداخلية والخارجية، وأحياناً معرفة بعض التفصيلات من خلال هوية المشاركين، ومتبنياتهم الفكرية والسياسية والستراتيجية، وقد جاءت خطوة الرئيس الفائز ترامب بتعيين مديرة حملته الانتخابية سوزي وايلز، بمنصب كبيرة موظفي البيت الأبيض إشارة مهمة بهذا الاتجاه.
موظفو البيت الأبيض
منذ أول بنائه عام 1792م، إلى أول ساكنيه الرئيس الثاني جون آدم عام 1796م وحتى الآن، يرمز البيت الأبيض إلى مركزية النظام الأميركي وأسلوب الحكم الفيدرالي، وهو موطن ما يُطلق عليها إجمالاً "الإدارة الأميركية". بديهي أن البيت الأبيض شهد، وتبعاً له مؤسّسة الرئاسة نفسها، تحوّلات كبيرة على مدار قرنين وأكثر من عشرين من السنين، تحوّل فيها المكان إلى مؤسّسة ضخمة لها تقاليدها وأعرافها وضوابطها، وقد راحت تشكّل جزءاً مما بات يُطلق عليه: "ثقافة واشنطن".
على سبيل المثال؛ يذكر ستيفن هيس (معاصر، ولد: 1933م) في كتابه "تنظيم الرئاسة"، أنه لم يكن من حق الرئيس حتى مطلع ثمانينيات القرن المنصرم تعيين أكثر من نحو (200) موظف فقط، بينما تطوّر هذا العدد لاحقاً إلى (500) ثمّ إلى (2000)، وهو الآن قد ارتفع إلى ما يزيد على (10,000) موظف، ما يكشف عن ضخامة مؤسّسة الرئاسة، واتساع هياكلها التنظيمية والإدارية، وتراكم خبراتها ودورها بمساعدة الرئيس في صنع السياسات، وتقديم المشورات والمشاركة بتسيير أعمال الرئاسة وأنشطتها.
هذا التطوّر البيروقراطي الهائل في البيت الأبيض والإدارة الأميركية العامة، ربما هو ما دفع الكونغرس الأميركي إلى الموافقة على طلب الرئيس الديمقراطي الاستثنائي في عدد الرئاسات (فاز في أربعة انتخابات متتالية) فرانكلين روزفلت (1933 - 1945م)، سنّ قانون إعادة تنظيم البيت الأبيض عام 1939م، فأُنشأ بمقتضى ذلك المكتب التنفيذي لرئيس الولايات المتحدة، ثمّ تطوّر الأمر بعدئذ إلى إقرار موقع رئيس موظفي البيت الأبيض أو كبير موظفي البيت الأبيض؛ عام 1946م ليكون رئيساً للمكتب التنفيذي، قبل أن يتحوّل إلى اسمه الحالي منذ عام 1961م وإلى اللحظة الحاضرة التي باتت تترأسه فيها سوزي وايلز، من دون أن يحتاج إلى موافقة مجلس الشيوخ، كما هو الحال مثلاً بالوزراء
الفدراليين.
من البديهي أيضاً أن يبرز في هذا السياق التنافس بل قل الصراع، بين مراكز القوى في البيت الأبيض، مما ألفنا له أمثلة كثيرة في جميع ما شهدناه وعاصرناه من إدارات خلال العقود الأخيرة؛ بين المكتب التنفيذي والمكاتب التابعة له (مثل مكتب الإدارة والموازنة، ومكتب تطوير السياسات العامة وغيرها) من جهة، وبقية مؤسّسات الرئاسة والوكالات التابعة إلى الرئيس، كوكالة الاستخبارات، ومجلس الاحتياط الفدرالي، ووكالة الأمن القومي وغيرها كثير من جهة أخرى. وقد يؤدّي التدافع في هذه الصراعات بين مراكز القوى، إلى سقوط بعض مسؤوليها بالاستقالة والإقالة، لفتح الطريق أمام اصطفافات جديدة في مراكز القوى، مما له أمثلة بالعشرات في إدارة ترامب الأولى (2017 ـ 2021م).
الولايات والسلطة المركزية
قد يمكن القول إجمالاً، إن الولايات الخمسين المؤتلفة في نطاق الاتحاد العام، هي مرتكز القوّة الحقيقية لأميركا، والأساس الذي تقوم عليه قوّة الحكومة الاتحادية أو الفدرالية، وذلك كله وفقاً لنصوص وثيقة دستور عام 1787م، وموازناته الدقيقة بهذا الشأن. فإذا ما عدنا إلى المواد الأساسية الخمس من مجموع سبع مواد تؤلف هذا الدستور (الخامسة مخصّصة لتعديل الدستور والسابعة ديباجة ختام وحسب) والتعديلات الملحقة بها، نجد أنها تتجه في مغزاها العميق إلى إقامة توازن بين حكم الولايات ونظام الحكم الفدرالي، على النحو الذي لا يضرّ فيه النظام الفدرالي بصلاحيات الولايات. بيدَ أن ذلك لا يمنع من القول، إن صيغة الحكم الفدرالي المتمثلة بحكومة واشنطن الاتحادية، راحت تتصلّب على مدار السنين، وترسّخ تقاليدها وأعرافها الخاصة، لكن بحذر وليس بعيداً عن الخطوط العامة للدستور الاتحادي، وبرضا متبادل مع الولايات.
على سبيل المثال، وجدتُ في عملية رصد جزئية، أن أغلب الرؤساء الذين تسنّموا الحكم الاتحادي في واشنطن، كانوا قبل ذلك حكام ولايات، تلتحق بهم في الوصف نفسه أسماء بارزة تقلدت مناصب عليا في الحكومة الاتحادية. تحرص هذه المزاوجة بين الولايات والمركز واشنطن على إبقاء التوازن في النظام السياسي الأميركي، بحصيلة رابح - رابح بين المركز وأطرافه، إذ تجد الولايات أنها تحقق منافع من الحكم الاتحادي لا تحصل عليها إلا عبر واشنطن، كما يحقق الحكم الاتحادي منافع للولايات عبر صيغة النظام وتكوين الإدارات المركزية المتتالية في واشنطن. وعلاقة التوازن المنفعي هذه، هي في طليعة أسباب ديمومة النظام المزدوج في الحياة السياسية الأميركية وصموده منذ لحظة الاستقلال تقريباً في 4 تموز 1776م، حتى الآن. ومن ثمّ يمكن القول إن أي احتمال جدّي يُطرح في مجال إمكان تفكّك الولايات المتحدة الآن وفي المستقبل، إنما ينشأ في أرجح أسبابه، من حالة كسر التوازن في توزيع السلطة على المستوى الإقليمي، وضرب التقاسم الموجود الآن بين سلطة الولايات الخمسين والسلطة المركزية في واشنطن.
الحكومة الفدرالية
ببساطة شديدة وبشيء من الاختزال، يمكن الكلام عن دائرتين في الإدارة الأميركية؛ الأولى ما دون الوزير، والثانية تضمّ الوزراء ورؤساء الوكالات، والوكالات في المركز كثيرة تتعاضد مع الوزارات في تكوين القاعدة الرأسية الصلبة للإدارة الأميركية. يمكن القول غالباً إن الدائرة الأولى هي من اختصاص المكتب التنفيذي الذي يرأسه كبير موظفي البيت الأبيض (سوزي وايلز في إدارة ترامب المرتقبة)، ويجري اختيار عموم الموظفين من قبله وتحت إشرافه.
أما الدائرة الثانية التي تضم الوزارات الاتحادية (بين 15 - 18 وزارة) والوكالات واللجان التنفيذية والتنظيمية الفدرالية (يزيد عددها على الوزارات في العادة)، فصلاحيات اختيار شاغليها والمسؤولين عنها، تبدو حصرياً بيد الرئيس والحلقة الضيّقة من المستشارين الثقاة المقربين
إليه.
بشأن الوزراء وتشكيل الحكومة المركزية ينبغي أن نستذكر بانتباه، أن صيغة الحكم في الولايات المتحدة رئاسية. بمعنى أن مقاليد السلطة التنفيذية معقودة بيد الرئيس وحده. لكن الدستور منح الرئيس حق اختيار مساعدين له من دون قيد يُذكر، سوى موافقة مجلس الشيوخ عليهم. وقد تفاوتت التسميات على مساعدي الرئيس بين هيئة المستشارين، ومجلس الوزراء وما إلى ذلك، لكن ليس إلى حدّ أن تكون هذه الهيئة أو المجلس بمنزلة الحكومة التي نعرفها في بقية البلدان، بل هي أقلّ شاناً حتى مع الوظائف الكبيرة المناطة بالوزراء، لأن المخوّل بالسلطة التنفيذية دستورياً هو الرئيس وحده، دون الهيئة أو المجلس أو الوزراء. وهذا ما يفسّر التضخّم الكبير الكائن وراء عنوان رئيس الولايات المتحدة، وصلاحياته الممتدة الواسعة بلا حدود أو بأقلّ قدر من الضوابط والقيود.
الرئيس والحكومة
لقد جرت العادة في تقاليد الرؤساء الفائزين أن تكون أول مهامهم بعد الفوز، تشكيل فريق المرحلة الانتقالية برئيس محدّد ومدير تنفيذي للفريق، لتقديم المشورة للرئيس بأسماء مرشحة لملء الوظائف الكبيرة في الإدارة المرتقبة. وعادةً ما يقدّم هذا الفريق قوائم المرشحين في الحقول الأساسية؛ وأهمها السياسة الداخلية، والسياسة الخارجية، والسياسة الاقتصادية الداخلية، والاقتصاد العالمي، وفي الدفاع والأمن القومي، وأحياناً ترشيح أسماء لملفات أساسية، كما هو الحال الآن في ملف أوكرانيا، والعلاقة مع "الناتو" والاتحاد الأوروبي، والعلاقة التجارية مع الصين، ومع روسيا، وملفات فلسطين ولبنان وإيران، أو ما يُطلق عليه القاموس السياسي الغربي إجمالاً؛ ملفات "الشرق الأوسط والحروب والأزمات المحتدمة
فيه".
في حالة رؤساء سابقين لا خبرة لهم بالشؤون الخارجية وملفاتها، ديمقراطيين وجمهوريين، كانت تتسع صلاحيات الفريق الانتقالي، كما شهدنا ذلك فعلاً على عهد إدارات الجمهوري دونالد ريغان (1981 - 1989م) والديمقراطي بيل كلينتون (1993 - 2001م) والجمهوري بوش الابن (2001 - 2009م) وهكذا. بيدَ أن هذه الصلاحيات كانت تتضاءل كثيراً كما حصل ذلك مع رؤساء أقوياء في ثقافتهم وتجربتهم، مثل الجمهوري جورج بوش الأب (1989 - 1993م) والديمقراطي باراك أوباما (2009 - 2017م). على حين بدا الرئيس الجمهوري دونالد ترامب في إدارته الأولى (2017 - 2021م) وكأنه يمثل أنموذجاً قائماً بنفسه، يتراوح بحالة قلقة بين عدم المعرفة والإصغاء إلى الفريق الخاص، ثمّ الانقلاب على آراء المختصين، وهذا ما يفسّر لنا كثرة تبدّل عدد غير قليل من الموظفين الكبار، ككبير موظفي البيت الأبيض (استُبدل ثلاث مرات)، ووزيري الخارجية والدفاع، ومستشار الأمن القومي وغيرهم كثير.
رؤساء وأمزجة
على سبيل المثال تقدّم لنا الدراسات الاستقصائية معلومات ليس فقط عن دور الرئيس الفائز في المرحلة الانتقالية وأثره في تكوين الحكومة، بل كذلك عن طبيعة علاقاته بالوزراء ورؤساء الوكالات واللجان في الهيكل الرأسي الصلب للإدارة الأميركية، ممن قد يصل مجموعهم إلى خمسين شخصية. حصيلة هذه المعلومات، أن علاقة الرئيس الجنرال دوايت ايزنهاور (1953 - 1961م) مثلاً، كانت هامشية مع وزرائه، لأنه أعطاهم دوراً استشارياً فحسب، بينما احتفظ بصلاحيات القرار لنفسه، ربما وفقاً لثقافته العسكرية. أما الديمقراطي جيمي كارتر (1977 -1981م) فقد اتسمّت علاقته مع وزرائه بالتقلّب وعدم الاستقرار، ونمو واضح لمراكز القوى وفي الطليعة السيدة الأولى روزالين كارتر التي كانت كثيرة التدخّل في إدارة البيت الأبيض، على حين فوّض الرئيس الجمهوري ريغان الكثير من صلاحياته لوزرائه، لأنه يُصنّف أُمياً سياسياً لا يطيق التفاصيل. أما الديمقراطي كلينتون فقد جعل من وزرائه زملاء وشركاء في اتخاذ القرار، فكان يصغي إليهم، وقد منحهم أدواراً في البحث والنقاش والتحليل. في حين كان الجمهوري بوش الابن مستأثراً بسلطة القرار، يفرض رأيه على الوزراء، ويستغني عن رأي بل وعن خدمات من يُجاهر برأي مخالف له، بعكس الديمقراطي أوباما الذي كان أميل إلى بناء الرأي الجماعي، لكن من دون أن يفقد مركزيته وقراره الشخصي (يُنظر في تفاصيل هذه المعلومات: الحكومة والإدارة العامة في الولايات المتحدة الأميركية، د. عبد الفتاح ياغي، ص 130 فما بعد).
من خلال متابعة تجربة ترامب في السنوات الأربع الأولى من إدارته، وقراءة مخرجات من عمل معه، يبدو أنه شخصية مركزية شديدة الاستئثار بسلطة القرار، يُبدي ردّ فعل سريعا على من يختلف معه من وزرائه وكبار القادة، كما يظهر ذلك من الرقم القياسي لعدد الاستقالات والإقالات لمن عمل معه. تبدو نظرية ترامب ببساطة، أن القمة لا تتسع لأكثر من شخص واحد، ولا مجال فيها إلا لكرسي وحيد هو كرسي الرئيس دون غيره.
مع ذلك تراني أميل إلى من يذهب إلى أن ترامب سيكون أكثر مرونة وسعة صدر في إدارته الثانية المرتقبة، مما بدا عليه إبّان الإدارة الأولى. والسبب ليس فقط التجربة الشخصية وتراكم الخبرات، وغياب تحدّيات التجديد للإدارة الثانية، (فهو الآن في الإدارة الثانية)، وإنما أيضاً لأنه أصبح أكثر معرفة بـ"ثقافة واشنطن" وصار أشدّ مراساً في التعايش معها والتعامل مع رجالها وأعرافها وأحابيلها.
ثقافة واشنطن
لواشنطن تأريخ عريق في التأريخ والجغرافية يعود إلى قرار الكونغرس بإنشائها في تموز 1790م عاصمة وطنية. بيدَ أن الأهمّ من ذلك هو دِلالات هذه المدينة، بما بات يُعرف بـ"ثقافة واشنطن"، هذه الثقافة المكوّنة من أعراف وتقاليد وسلوك الاجتماع السياسي والنخب الحاكمة، التي تتقلد في العادة أعلى المناصب، ويرتبط رجالها بعلاقات معقّدة مع مؤسّسات الحكم، وجماعات الضغط، ومراكز الثروة والصناعة والمال، ومؤسّسات التفكير.
في حدود معطيات المتابعة الشخصية والمصادر التي بين يديّ، لم أجد من تحدّث عن المجتمع السياسي في العاصمة وثقافة واشنطن، وما تعكسه من "غيتو" مغلق بأعرافه وتقاليده الخاصة في هذا المجال، يحتاج الداخل الجديد إليه إلى مفاتيح مؤثرة، لكي لا تتعثّر به الخطى، حتى لو كان هذا الداخل هو رئيس الولايات المتحدة نفسه. كما لم أقرأ مصدراً خاصاً عن النخب السياسية في واشنطن، بل لم أنتبه لهذه الظاهرة إلا بعد الضجة التي أثارها فوز دونالد ترامب في رئاسته الأولى عام 2016م، حين تصاعد الهجوم ضدّه بأنه جاء من خارج نسق ثقافة واشنطن، بعيداً عن دائرة مجتمعها السياسي ونخبها، فقام بدوره بهجوم معاكس عندما ردّ على مهاجميه، بأنه سيكشف عن خفايا مجتمع واشنطن ويهتك أسرار نخبه ورجاله وسلوكهم ونخبويتهم. وربما كان هذا الاختراق لمجتمع واشنطن السياسي وثقافته، هو وراء ما بدت لنا حالة عناد لعودة ترامب رئيساً وإصراره على الفوز، في حالة يتلبّس فيها الإصرار على الفوز، وبذل المشاق لمدّة سنتين وأكثر، مع السعي لإثبات الذات والثأر والانتقام، من مجتمع نخبة واشنطن وثقافتها الخاصة.
دفعتني ملاحظة مجتمع واشنطن ونخبته المخملية وثقافتها الخاصة، إلى استعادة بعض أهمّ مصادر معرفتي عن أميركا، بحثاً وتنقيباً عن هذه الظاهرة أو الحالة، فوجدتُ مثلاً أن ريتشارد نيكسون يتكتّم عليها لكن خيوطها تنفلت من بين سطور مختلف كتبه، ولاسيّما مذكراته الموسومة: "مذكرات الرئيس نيكسون.. الحرب الحقيقية". أذهلني بكلامه عن التفاصيل عنها السياسي الأميركي هاملتون جوردن (1944 - 2008م) كبير موظفي البيت الأبيض على عهد الرئيس كارتر، في كتاب صدر له، بعنوان: "الأزمة".
بيدَ أن المصدر الذي انتفعتُ منه كثيراً واقتبستُ منه مصطلح "ثقافة واشنطن" هو كتاب بيل كلنتون الضخم "حياتي"، (1103 صفحة من الحجم الكبير)، إذ يصلح اختيار ما كتبه عن الظاهرة ما يعدل كراساً كثير النفع، قائماً بنفسه. فمع أن كلينتون لم يأتِ إلى الرئاسة ويفوز بها عام 1992م من فراغ، بل كان قبل ذلك حاكماً لولاية أركنساس لأكثر من عشر سنوات (على مدتين)، إلا أنه كان كمن يواجه فراغاً وهو ينتقل إلى واشنطن، فاحتاج إلى أن يتوكأ على عضو مجلس الشيوخ آل غور، الذي يذكر أنه تعلم منه الكثير عن شؤون الأمن القومي والدفاع، لكن الأهمّ من ذلك أنه أخذ بيده إلى: "فهم الكونغرس وثقافة واشنطن"، ثمّ اختاره نائباً له. ومع ذلك يعترف كلينتون أن سنوات حكمه الأولى شابتها: "أخطاء بريئة غير مقصودة وانتهاكات خرقاء لثقافة واشنطن"، (حياتي، الترجمة العربية، ص 540).
ما أريد قوله وأختم به بشأن ترامب، إنه أصبح في دورته الجديدة أكثر معرفة بثقافة واشنطن، وأشدّ مراساً في التعامل مع أحابيلها، وعقد التسويات والصفقات مع نخبها ورجالها، بل والسعي ربما إلى تعديل بعض أعرافها وتقاليدها، ولو نجح في ذلك سيسجل له التأريخ السياسي الأميركي أنه من الرؤساء الذين صنعوا الأعراف أو أعادوا بناء "ثقافة واشنطن" ولم يستسلموا لها.