د.عقيل مهدي يوسف
يقومُ خطاب العرض في مسرحيَّة « الجدار» التي من تقديم الفرقة الوطنيَّة وتأليف حيدر جمعة وإخراج سنان العزاوي على موضوعة استباحة الإنسان رجلاً وأنثى بامتثاله، جسداً وقيماً خلقيَّة، بأبعادٍ هجينة مزورة، لاستشراء الفساد بمسخ جمال المرأة وتغييب دورها البناء في تساويها مع الرجل بتعذيبها وتجويعها وسجنها وإلصاق تهم الشيطنة لتشويه سمعتها من قبل فحولة فقدت جنسها الرجولي وبذلك يتم إخلال توازن ميزان العدالة بما يقترفه الآباء والأبناء من انتهاكاتٍ تخصُّ سفاح القربى، وترويج المخدرات لتصبح المرأة مصابة بالهلوسة والاكتئاب والحزن والرعب والعمى وتخريب عقولهنَّ للمتاجرة بأجسادهنَّ ليصبحن رهن موتٍ بطيءٍ وحتى يصل الأمر بإبادة الجنين في الأرحام وكل ذلك يتمُّ بنزعاتٍ من العنف والتوتر والإرهاب وهي مظاهر واضحة في العصر الحديث بتطرفها وغلوها وغياب منطق التسامح فيها لا سيما في شن الحروب التدميريَّة لغايات استعماريَّة.
نجد في العرض مقاربة إخراجيَّة تخصُّ الجوهر البايولوجي لجسد المرأة فيصبح هدفاً شمولياً تصادر فيه حريات الشعوب المستضعفة بالظلم والطغيان وشيوع منظومة لا عقلانيَّة في انتشار الرذيلة والمثليَّة وتحول الرجل الى أنثى والغانية الى قديسة ثم يصبح البشر أقرب الى مسوخٍ حيوانيَّة وحشرات وكذلك يبدون كالمجانين وهم يتسلقون الجدران ويزحفون على الأرض كالأفاعي والفيلة بأجسادٍ نسويَّة مبقعة بالحرائق والطعنات وكذلك بتقتيل الأطفال بأبعادٍ غرائبيَّة وباقتراف جرائم خانقة للروح الإنسانيَّة الفاضلة.
أفاد المخرج من آليَّة تكرار الكلمات في وقعها الخاص في التلفظ والغناء والخطابة بأصواتٍ فيها زقزقة الطيور ونقيق الضفادع وهذا يذكرنا بمسرحيَّة ارسطوفانيس في مسرحيته «الضفادع» وصولاً الى كافكا في «المسخ» عن تحول الإنسان الى حشرة و»الذباب» عند «سارتر».
سبق أنْ تحدث “بول فاليري” عن ضوء الكلمات التي تكشفُ عن همومها وأوجاعها للجمهور بوقعٍ يمنحها قوة فنيَّة خلاقة مسرحياً.
استطاع المخرج التحكم بفضاء العرض بأسلوبٍ إخراجي يخصُّ متطلبات ما بعد الحداثة التي ضمت مقارباتٍ متنوعة مثل مسرح الواقعة، والصدمة، والقسوة والمسرح الحي وسواها وكذلك التحكم بأحجام الممثلين طولاً وقصراً ونوعاً، والممثلات في حركات تعبيريَّة وغناء وبعد طقسي للعرض.
حاول المؤلف توظيف ثنائيَّة الحب بين المرأة والرجل بتحويل الشخصيات الى مسوخٍ حيوانيَّة يهلكها المرض وهي تنطق بكلماتٍ مكرورة بشكلٍ قصديٍ وبوقعٍ رتيبٍ وهذا يذكرنا كما لدى سارتر في رواية “الغثيان” قام المخرج بجعل يد الإنسان كما الحشرات التي تمتدُّ مثل “سرطان البحر” وجعل أصابع الممثلات والممثلين تظهر من خلف الأسوار وهي تشبه الحيوانات والحشرات “ام 44” الزاحفة على الأرض والمتسلقة على الجدران وهي معلقة بثقوب الحائط في الصعود والنزول والظهور والاختباء خلف بوابات الجدار.
أراد المخرج سنان تقديم بعدٍ جماليٍ للعرض بطريقة غير معهودة في العروض المسرحيَّة العربيَّة هادفاً بطريقة قصديَّة الى تعرية الغزو الكولونيالي للعالم الثالث كما يدون هذه الكلمات في كلمته.
اتخذت “سينوغرافية” علي السوداني أبعاداً جماليَّة تخصُّ حركة الجدار في الانحراف والتقدم والتراجع وهي مقترنة بصورتها الايقونيَّة الخاصة بالأبطال وهم يظهرون في صورٍ يسبحون في المسابح والأنهر ومحاطون بقصور وأقبية وآثار عمرانيَّة ورسميَّة ودينيَّة مثيرة للدهشة والجمال، ونقف عند أدوار الممثلات وما قدمن من جرأة وجودة في الأداء، وكذلك نذكر دور يحيى إبراهيم الذي قدمه بجرأة استثنائيَّة.
كان النص الذي كتبه بإتقان حيدر جمعة متكاملاً مع طبيعة الإخراج و “كيروجراف” للفنان علي دعيم، وموسيقى رياض كاظم، وعازفة البيانو التي رافقت العرض من غير انقطاعٍ منذ البداية حتى النهاية بعزفٍ خلاقٍ مصاحبٍ بأغنياتٍ بطابعها ولحنها الأوروبي بمهارة عالية.
ضمَّ العرض “كادراً كبيراً” من الممثلين والعاملين ونذكر من بين الأدوار النسويَّة المتميزة الفنانة المبدعة آلاء نجم، وكذلك المبدعات في التمثيل لبوة عرب، ورضاب وإسراء ونعمة وفيروز، مع المجموعة، والتقنيين، وإدارة الإنتاج.