الـمَـعَـريّ: هذا جناه أبي عليّ وما جَنَيْتُ على أَحَدْ

ثقافة 2024/11/14
...

  باسم فرات

شغفي بالشعراء الـمميزين حياةً وشعرًا، رافقني منذ البدايات، كنت في الابتدائية، حين قررت أن أصبح شاعرًا، وقبل أن أكملها بدأت بتعلم "علم العَروض" على كتاب "ميزان الذهب في صناعة شعر العرب" لأحمد الهاشمي (1878- 1943 للميلاد)، وقد انتابني هوس التقطيع الشعري حتى وأنا أسير في الأسواق، فما أبقيت لافتة تعريفية لعيادة طبيب أو لمكتب محام أو لمحل كماليات أو مجوهرات أو بقالة أو ما إلى ذلك من اللافتات التعريفية في مدينتي إلّا وحاولتُ تقطيعها عروضيًّا. 

كانت بدايتي مع كتاب "شرح المعلقات العشر" للخطيب الشيباني التبريزي، وديوان "عمرو بن قميئة" وشعراء آخرين، كلهم ينتمون لعصر ما قبل الإسلام، ولم أصل بعد لقراءة الشعر الأمويّ، فكيف بشعراء العصر العباسي الثاني، لكن وصية أبي العلاء المعريّ (ت 1057 للميلاد) عَلِقَتْ بذاكرتي ما أن ردّدَها أمامي ابن عمتي وأخي في الرضاعة (أُعدمَ مع شقيقه وابن عم لنا في شهر رمضان من سنة 1991 للميلاد ولم نعثر لهم على قبر)، شعرت أن هذا البيت الشعريّ، أنا معنيّ به، وقد صدق حدسي، فلقد مضت أعوام طويلة، كان هذا يوم كنت تلميذًا بالابتدائية، ولم تكن الحرب العراقية الإيرانية قد بدأت، بل لم تكن الثورة الإسلامية في إيران قد نجحت، وكان زعيمها مقيمًا في باريس حينها، وبيت – وصية أبي العلاء المعري لم يغادرني، وخشية من ارتكاب جناية الأب، لم أصبح أبًا.

أدوّن هذا لأني ما زلت أذكر تفاصيل تلك الجلسة في بيت عمتي وكان يقع في بستان لهم يبعد خمسة كيلومترات شمال شرق كربلاء في طريق بغداد العام، وربما سبب هذه الذكرى اليانعة الطرية، هو أن هذا البيت الشعريّ، جرى على ألسنة الناس بكَسْرٍ عروضيٍّ أفقده وزنه، فهو على مجزوء الكامل، أي "مُتَفَاعِلُنْ مُتَفَاعِلُنْ" مكررة، في حين أن الناس تضيف بعد اسم الإشارة وقبل كلمة "جناه" الاسم الـموصول (ما) فيختل الوزن تمامًا.

من عادتي في أثناء كتابة "مادة ما" أن أبحث في الشابكة الـمعلوماتية "الأنترنيت"، وبينما أدوّن هذه "المادة" بحثت واستوقفني أحد الأشخاص يسأل عن إعراب هذا البيت وقد كتبه صحيحًا، فما كان من أحد الـمعلقين إلّا أن وضع تعليقًا يطالبه فيه أولًا أن يكتبه بصورته "الصحيحة" التي عند هذا الشخص أن البيت يجب أن يتضمن "ما" بعد الكلمة الأولى، أي بعد "هذا"، وحين ردّ عليه أحد المتفاعلين مع الـمنشور، كتب تعليقًا يدل على ثقة حمقاء نقع بها أحيانًا: سأكفر بعلم العَروض لو أنّ هذا البيت يخلو من "ما" في صدره".

هذه الثقة ذكرتني بجلسة في البصرة في مهرجان الـمربد الشعريّ عام 2024، مع نخبة جليلة من الأساتذة الأكاديميين الـمرموقين، وتم التطرق إلى شاهدة قبر أبي العلاء الـمعري، وحين قرأته اعترضوا عليّ، وكانت أكثرهم اعتراضًا أكاديمية مرموقة تحمل درجة الأستاذية، اعتبرت كلام الشاهدة ليس شعرًا بل مجرد شاهدة، حين أوضحت لهم أن البيت الشعريّ يختل وزنه لو أضفنا الاسم الموصول "ما" بعد اسم الإشارة "هذا"، لكنهم اعترضوا وأكّدوا أنها مجرد شاهدة تخلو من الوزن، أي ليست بيتًا شعريًّا، وأنهت الأستاذة الدكتورة حديثها بجملة مملوءة بالثقة الـمفرطة، مفادها أن لا أعترض وأعاند أمامها، فضاعت أمام هذه الثقة الـمفرطة لأساتذتي الأفاضل كلماتي: لكنه موزون لكنه موزون وعلى مجزوء الكامل.

بعد قليل التقيت الدكتور الشاعر والناقد صالح هويدي، وأخبرته بما حدث، فأَكَّدَ أن الشاهدة التي أوصى المعري أنْ تُكتب على قبره، فعلًا بيت شعري ومن مجزوء الكامل. إنّ حديثي مع صالح هويدي ليس تشكيكًا برأيي، إنما هي عادة اتبعها منذ نعومة أظفاري، كي لا أقع في بحر الغرور والتعجرف والاستبداد بالرأي، بل حتى سكوتي في نهاية النقاش، ينبع من عقيدتي هذه، وقبل البدء بكتابة هذه الـمادة، سألتُ ممن أثق بهم وهم من شعراء العمود الـمتمكنين من اللغة وعلم العروض.

لمن ليسوا من ذوي الاختصاص، فالشعر العربي مبني على أوزان هي مُتحرك ساكن، أي الحركات والسكون، وعلم العَروض يعني دراسة بحور "أوزان" الشعر التي هي ستة عشر بحرًا أو وزنًا، وبحر الكامل يشمل ستّ تفعيلات، ثلاث في صدر البيت ومثلها في عجزه، وتفعيلته هي "مُتَفَاعِلُنْ" ويمكن تسكين التاء فتصبح التفعيلة: "مُتْفاعِلُن"، والـمجزوء يعني حذف تفعيلة في الصدر ومثلها في العجز، فيصبح البيت الشعر يتكون من أربع تفعيلات، كما في بيت – شاهدة قبر أبي العلاء الـمعري التي هي موضوع الـمقال: (هذا جنا/ ه أبي عليْ/ يَ وما جنَـيْ/ تُ على أَحدْ). أما القراءة الشائعة للبيت – الشاهدة: "هذا ما جناه أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد"، فهي قراءة خاطئة لكنها شائعة.