سلام مكي
تمثل محاولة الشاعر شاكر لعيبي في كتابه "رواد قصيدة النثر في العراق" محاولة في التأصيل، وثيقة تاريخيّة وثقافيّة مهمة، لم تنل الاهتمام والعناية الكافية وقت صدورها وحتى اليوم، فالكتاب الصادر عن دار ميزوبوتاميا عام 2013 في بغداد، جهد ثقافي مهم، وضروري لتوثيق حركة شعرية عراقية، ظهرت في بدايات القرن الماضي، وشكلت علامة فارقة في الشعر الحديث.
ورغم أن الدكتور أحمد مطلوب، قد تناول الموضوع بشكل من الايجاز في كتابه" في الشعر العربي الحديث، إلا أن الدكتور شاكر لعيبي، حاول في هذا الكتاب، التأصيل لحركة شعرية، نزعم أنها ظلمت نقديا، وتم تجاهلها لأسباب ربما تكون ايديولوجية، أكثر منها ثقافيّة. وقد تناول لعيبي في مقدمة كتابه هذا، التأكيد على أن مقاربته هذه، تنطلق من الجهود التي بذلها شعراء عراقيون، في أوائل القرن العشرين، وسعوا من خلالها الى ترسيخ شكل شعري جديد، غير مألوف. فقال لعيبي لنا، إنه رأى أن تلك المحاولات تمت بقصدية ووعي، وليست مجرد خواطر وتأملات، لا معنى لها سوى الاستغراق في عاطفة عابرة. فالقصدية وكما هو معروف، تعني أن الشاعر، كتب بقصدية، أي كان قاصداً الكتابة بالشكل الشعري الجديد، كما أنه يعي ما يكتب، ويدرك تماماً، أنه يكتب نصوصاً شعرية، متجرّدة من الوزن والقافية. لعيبي هنا، قطع الطريق عن الذين سيقولون أن تلك موجة عابرة، كتبت بعفوية تامة، لذا هي لا تستحق عناء البحث. ولكن يبدو أن الزمن الذي أسهم الى حد كبير بتكريس فكرة أن موجة الحداثة الثانية، انطلقت من أدونيس، الذي كتب مقالته التأسيسية في مجلة شعر"في قصيدة النثر" والتي أسست لتيار شعري جديد، سيسميه بعض النقاد" موجة الحداثة الثانية"، على اعتبار أن الحداثة الأولى كانت على يد رواد الشعر الحر، الملائكة والسياب والبياتي... ولعل أهل وثيقة تاريخية، تؤكد أن التيار الشعري في ذلك الوقت، لم يكن بشكل عفوي، وإنما بقصدية تامة، وهي الرسالة التي بعثها الشاعر معروف الرصافي لأحد محرري جريدة المصباح، بعد أن نشرت قصيدة لأحد رواد ذلك الشعر وهو الشاعر مراد ميخائيل حيث جاء فيها: قرأت في العدد الثاني والعشرين من جريدتكم فقرة من رسالة أرسلها إليكم الأديب الفاضل مراد ميخائيل يجوز أن تعد ما فيها من المعاني العليا من أرق الشعر المنثور!، ولقد حوت دقة التعبير ودقة التصوير وبداعة الخيال ما يمتلك السمع ويستفز النفس ويختلب القلب ويدل على شعور راق يلوح لي من خلاله ابتسام أمل كبير بمستقبل صاحبه الشعري، ومن ذا الذي لا يتمنى لمثل هذا الشعر الحي الراقي أن يتبلج صبحه الوضّاح في آفاق العراق.
إنَّ هذه الرسالة التي نقلها لعيبي عن الرصافي، إنما تدل على عدة معانٍ، أولها: تلمس الرصافي للجديد من الشعر، وعدم التعصب والانحياز التام للشعر التقليدي، حيث قرأنا عن نقاد كثيرين، أن الشعر الحديث المتجرّد من الوزن والقافية، يعد مؤامرة على اللغة العربية، كما تم إطلاق الكثير من الأوصاف بحق شعراء قصيدة النثر، واتهامهم بشتى الاتهامات، لا لشيء، إلا لأنّهم كسروا هيمنة الشكل الشعري المتوارث. والرصافي، رغم أنه أحد أساطين الشعر العربي وقته، لكنه كان ميَّالاً الى الكتابة الجديدة التي كان يتمنى أن يكون لها شأن في المستقبل، وقد تحقق ما تمناه، بعد سنين من وفاته، لكن ما سمّاه بالشعر المنثور، أصبح يسمى بقصيدة النثر، وهناك من يسعى لإيجاد فرق كبير بين الاثنين، ويحاول الفصل بين تلك المحاولات التي لم يكتب لها الرسوخ، بسبب الظروف السياسية والثقافية التي كان يشهدها البلد، فضلا عن أسباب أخرى، لا مقام لذكرها.
لعيبي، سعى في محاولته هذه الى تناول عدد من رواد هذا الشعر، منهم رفائيل بطي ومير بصري ومراد ميخائيل وشكري الفضلي ومحمد بسيم الذويب وحسين تيمور وحسين مردان، وحتى الشاعر جميل صدقي الزهاوي، لأنّه عدّ "الشعر المرسل"، أحد صور التجديد في الشعر، رغم أن الزهاوي وكما يقول عنه لعيبي لم يتقبل كتابة شعر غير موزون، لكنه لا يمانع من الشعر المتحرر من القافية. ثم يكتب لنا لعيبي عن رفائيل بطي عادا إيّاه رائدا لقصيدة النثر، إذ نقل لنا مقولة لبطي عام 1926 جاء فيها: كل العجب من إصرار ناظمين على التمسّك بالوزن والقافية.. إن المستقبل للشعر المنثور.
فبطي هنا، وكما أكد لعيبي في التمهيد أنّ الشعراء الذين سيتناولهم في كتابه هذا، كتبوا بقصدية واضحة، ووعي تام، بما يكتبون به، وها هو بطي، يعجب في عام 1926 من تمسّك الشعراء بالقافية والوزن، عند كتابتهم للشعر. ولعيبي في كتابه هذا، لا يجد فرقاً شاسعاً بين الشعر المنثور وقصيدة النثر، خصوصاً وأن قصيدة النثر، كنمط كتابي، أصبحت حقيقة قارة، لا فائدة من الجدل في مدى شرعيتها من عدمه، لكنها من الناحية التنظيريَّة، ما زالت تعاني من عدم الوصول النهائي للمحددات النقديَّة التي تحيط بها، لأنَّ طبيعة قصيدة النثر، وتكوينها العام، ترفض التقيّد بقواعد نقديّة، لأنها ببساطة، تحمل طاقة متجددة، حيوية، تأخذ قواعدها من مجريات الحياة التي تكون بحركة دائمة. فالإطار العام لقصيدة النثر، هو التجرّد من الوزن والقافية، والقصيدة التامة والوعي الكامل بها، ثم الإيقاع الداخلي، والذي يبتكره الشاعر عبر صياغة معانٍ خاصة بها، يلتقطها من التجربة الخاصة به. كذلك الشعر المنثور، فهو شعر، يعتمد على مدى الطاقة التي يبثها الشاعر داخل الألفاظ، وكلما ازدادت شحنات الطاقة قوة، توهّج النص أمام المتلقي، كما فعل النص الذي أبهر شاعرنا الرصافي.
كما لم ينسَ لعيبي، شعراء الحقبة الستينيَّة الذين أسهموا الى حدٍّ كبير بجعل العراق رائداً في ميدان التجربة التي ظهرت على يد مجلة شعر اللبنانية، وهو والشاعر سركون بولص وصلاح فائق والأب يوسف سعيد، فضلا عن الشاعر حسين مردان، الذي اختط لنفسه نمطاً كتابياً، أسماه " النثر المركز" وهو مصطلح انفرد به مردان. إنَّ الأسماء التي أوردها لعيبي في كتابه، شكّلت منعطفاً شعرياً، جعل من العراق، الرائد الأول للحداثة الشعرية في العراق، وهي محاولة مهمة ولا بدَّ منها لتأصيل تلك التجارب التي أسهمت موجات النقد بتغييبها عن التاريخ النقدي والشعري العربي.