الجدار: رؤية جماليَّة لتجسيد القبح وإشهاره

ثقافة 2024/11/18
...

  د. كريم شغيدل

من إنتاج دائرة السينما والمسرح وتأليف حيدر جمعة وإخراج سنان العزاوي، قدمت الفرقة الوطنيَّة للتمثيل واحداً من أضخم عروضها وأكثرها جرأة، ويعد قفزة نوعية في الشكل والمضمون، برؤية ابتكارية متقنة ومحسوبة بصرياً وحركياً ودلالياً والذي يقترب من الطابع العالمي فنياً بإسقاطات دلالية على الواقع العراقي، وبمضمون غير مألوف يسعى لإيصال رسالة إنسانية تتمثل مأساة المرأة.

 فقد أوغل عرض (الجدار) في تأكيد عالميته بصناعة فضاء بصري/ صوري/ حركي/ تعبيري غرائبي، إلا أن مشكلة العزاوي في راديكاليته/ ثوريته، إذ يريد في لحظة واحدة أن ينسف كلَّ ثابت ومألوف ويمسك بكل شيء دفعة واحدة، ما يوقع عروضه في التكرار والمبالغة والإطالة، إذ كانت مدة العرض (150 دقيقة)، وإن نجده قادراً على الإمساك الاحترافي بإيقاع العرض، لقد كان نص حيدر جمعة جريئاً وينتمي بقوة إلى ما يسمى بالنسوية في الدراسات الثقافيَّة، أي الأعمال التي تعالج قضايا المرأة تحديداً، المساواة، القسوة، العنف، الحرية، قضايا الجندر أو النوع الجنسي، الهيمنة الذكوريّة إلخ.. فالنص على طريقة ألف ليلة وليلة يحكي مجموعة قصص لنساء معنفات ورجل متحول، بما يشبه الاعترافات لعدة نماذج، المرأة التي تنتهك جسدياً ونفسياً من قبل زوجها ذي النزعة السادية المدمن على مشاهدة الأفلام الإباحية، المرأة التي تضحي ببنتيها بعد إجبارها على ممارسة تبادل الزوجات، المرأة التي يستغلها حبيبها ويخدعها ثم تتحول إلى راقصة تستغل السياسيين لتساعد الفقراء، والمرأة البدينة التي يغويها حبيبها ويستدرجها لشهواته الغريزية ثم يهجرها، والمرأة الحالمة بالطيران والتي يوفر لها أخوها ما يوهمها بتحقق حلمها بتعاطي المخدرات، حتى يصل الأمر إلى ارتكاب زنا المحارم بالزواج منه، والمرأة التي تجهض ثلاثة أطفال من حمل غير شرعي بعد اغتصابها من أبيها "الإرهابي الداعشي"، والمرأة التي يستدرجها حبيبها الرسام ويحرق وجهها ثم تقتله بغرز فرش الرسم، والمرأة المتدينة في الظاهر وتمارس فعل السمسرة بغطاء ديني، والمتحول الذي هو ضحية إهمال الأسرة واغتصابه في سن الرابعة، وكل تلك الضحايا يرتكبن جرائم القتل حقيقياً ورمزياً بحق الجلادين، في إيحاءات دلاليَّة للثورة على الواقع المرير ومحاولة الخروج من جدار المنفى النفسي والاجتماعي والقيمي الذي وجدن أنفسهن فيه، ذلك أن الجدار الصلد للتقاليد لا يسمح بمواجهة الحقيقة، فالأب يتهم ابنته بالجنون حين تحاول إفشاء السر، والمتحول يتحول إلى جلاد (قواد- ديوث) ثم يثور بإطلاق صرخته الأخيرة (أنا رجل) وعازفة البيانو تخلط دم الجاني بألوان الرسم، والمرأة البدينة تقطع جثة الجاني مثل شاة، وهكذا تجري عمليات الانتقام بمثابة ردة فعل على تابوات المجتمع، وهذه القصص في الواقع موجودة عبر التاريخ، لكن بنسب ضئيلة، وهي من المسكوت عنه، لكن النص يحاول أن يسقط ذلك على ما جلبته الآلة الإعلاميَّة الإمبرياليَّة (الكونيالية) للعالم الأول من ثقافات ناعمة في استفزاز الغرائز والملذات وتحويل الإنسان إلى آلة عمياء لممارسة الرذيلة بعد زعزعة المنظومة القيميّة والأخلاقيّة في العالم الثالث عن طريق وسائل الاتصال الرقمي، كما يطرح النص تساؤلات وجوديّة بحثاً عن الذات (هل نحن بشر؟ هل نحن ملائكة أم شياطين؟ هل نحن قوادون؟ إلخ) وقد تمثل مفهوم السلطة بعدة عناصر الأول المتسلط (الجوكر) والثاني الأداة (المغنية المنفذة) والثالث أداة الأداة (الخنثى) مسلوب الإرادة الخانع الضعيف، وقد لمح النص إلى ما يسمى بعصر التفاهة، وأرى أن النص قابل للاختزال والتكثيف لما انطوى عليه من تكرار ودورانية في القصص، إلا أن سنان العزاوي وظف التكرار وشغل مساحات العرض بما لا يسمح بوجود ثغرة، بل سعى لجعل التكرار سمة لتوكيد رسالته.

في الإخراج وصف العزاوي بكونه مجنوناً، وهو بحق كان مبدعاً حد الجنون في خوض مغامرة جريئة من خلال صناعة نظام عرض صوري من الفوضى والغرائبية، فوضى الأحداث والحكايات المتداخلة، العنف، الانتقام، الثورة، فقد حشد مجموعة ممثلات ليس لهن تجارب كثيرة على المسرح، باستثناء الفنانة آلاء نجم، فضلاً عن الفنان يحيى إبراهيم، وقد أحاطهن بمجاميع من الشابات والشبان بعدد مبالغ به، ومع ذلك أدار دفة سفينة العرض في طوفان حركي- صوري متدفق ومتناسل ومتناسق، منطلقاً من رؤية جمالية لتجسيد القبح وإشهاره والتحريض على تحطيم التابوات المتسترة عليه، فكلما يجري من أحداث هو قبيح بالمنظور الأخلاقي والثقافي والديني ومنافٍ للأعراف والتقاليد، فضلاً عن كونه يمثل انتهاكاً صارخاً للبراءة والعفة والكرامة، وتدميراً لشخصية المرأة وتحطيماً لوجودها الإنساني والاجتماعي والنفسي، وكل هذا مسكوت عنه بضغط من السلطة بمختلف أشكالها (سلطة الدين والمجتمع والأعراف والتقاليد والهيمنة الذكورية) في مجتمعات خائفة ومستلبة ومدجنة تخفي في دواخلها رغبات متوحشة تنفس عنها متى ما سنحت الفرصة، وكانت رؤية المخرج أن يرسم لشخصياته أنماطاً صوريّة وحركيّة تترجم أزماتها النفسيّة ومحركاتها الذاتية، فالراقصة وقرينتها بقيتا ترقصان في صورة نمطية، والمرأة التي كانت ضحية الشهوات المريضة لزوجها والتي ألقت ببنتيها في الماء بقيت طيلة العرض تتشبث بالجدران كأنها غارقة، والمرأة البدينة بقيت تتمثل حركة انقضاضها على الجاني، والمرأة الحالمة بالطيران وأدمنت المخدرات بقيت تترنّح وتحاول الطيران، والمرأة التي حملت من أبيها بقيت تضرب على بطنها، والمتحول تقمّص شخصية الخنثى، وضحية الرسام بقيت تعزف على البيانو طيلة العرض، والمرأة المتلبسة بلباس الدين ظهرت وكأنّها طائر خرافي يتخلل حواراتها صوت يشبه صوت الديك الرومي، والجوكر الذي يمثل السلطة والمغنية المنفذة لأوامره كل منهما ظهر بمظهر يمثل شخصيته، مع قرين يلازمه ويتبادل معه تشكيل الصورة الحركية والتعبيرية، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى الأداء التمثيلي المتقن لكل الممثلين من دون استثناء، وقد لعب المخرج على لعبة الخارج والداخل وتوظيف الأبواب والأيادي بصورية معبرة جمالياً ودلالياً، كما أن سينوغرافيا علي السوداني قد منحت العرض بعداً غرائبياً ملائماً وفضاء مفتوحاً أتاح للمخرج فرصة التحرر من المساحات الضيقة والمتواليات المشهدية المنفصلة، فالأحداث لا فاصل بينها، بل هي متداخلة داخل وخارج المكان، مع توظيف معقول وناجع للمشاهد السينمائية و(الداته شو) من دون إفراط، وتوظيف غرائبي للأزياء، وكانت مشاهد الثورة والمجاميع متقنة لا سيما توظيف الأيادي من فتحات الجدار، وفتح الجدار على مجموعة كبيرة من الجوكرات، وقد حقق العرض صعقات وصدمات صورية هزت المتلقي، وجعلته مشاركاً نفسياً أو انفعالياً أو دلالياً بما يجري على المسرح من أحداث واقعية مقدمة بأسلوب غرائبي وتغريبي، وقد تداخلت أساليب التقديم بين التسجيلي من خلال تقديم المؤلف والمخرج وإشراك عازفة البيانو، والملحمي والتعبيري والغرائبي ومسرح القسوة ومسرح الصورة وبلمسات احتفالية كرنفالية، مع تناصات تستحضر لمسات مستعارة من بعض العروض، لكن للأمانة كان العزاوي مقتدراً في إعادة إنتاج تلك اللمسات وصهرها وأسلبتها، وأعني انتماءها لأسلوب عرضه وغرائبيته.

لم نفاجأ بأداء الفنانة القديرة آلاء نجم، التي شكلت محور العرض إلى جانب المبدع يحيى إبراهيم، إذ يشعر المتلقي بأنهما الروح المحركة لمجريات العرض بحكم تجربتيهما، من خلال التحولات وقيادة الإيقاع الذي خطط له أن يتواصل كسمفونية متعددة الأصوات من دون انقطاع، فكانا كبيرين وجريئين، وكانت لهما لمسات مدهشة كمشهد تبادل الأدوار بين الراقصة آلاء نجم  والمتسترة بالدين زمن الربيعي، كما لم نفاجأ بلبوة عرب التي تخطت أدوارها السابقة وقدمت أداء تعبيرياً ينم عن وعي ومهارة في توظيف أدواتها الحسيّة والحركيّة، لكننا فوجئنا حقيقة بأداء بقية الممثلات اللواتي لم تكن لهن سوى تجارب بسيطة، وبعضهن لم تعتلِ الخشبة قبل هذا العرض كالمتميزة نعمت عبد الحسين التي هيمنت على مفاصل العرض بصوتها الأوبرالي، ويبدو أنها خضعت لتدريبات مكثفة لإتقان دورها المركب، كما فوجئنا بزمن الربيعي ذلك الطائر الخرافي الذي يمثل الملتبسين والمتلبسين لباس الدين سواء بحركتها الآلية المتناغمة مع إيقاعها الصوتي أم بتوظيفها لصوت الطائر بختام جملها، كما نجحت في تقمص شخصية الراقصة خلال مشهد تبادل الأدوار الذي سبق الحديث عنه، أما رضاب أحمد التي سبق أن شاهدناها في عروض مهمة، وإسراء رفعت ورهام البياتي فكن مدهشات حقيقة وكشف أداؤهن عن خامات تمكن العزاوي من توظيفها واستخلاص أقصى طاقاتهن الإبداعية، ولا أستثني أحداً من فريق العمل الذي تجاوز ربما السبعين شخصاً ممثلين وفنيين، مؤثرات صوتية، إضاءة، سينوغرافية، أزياء، أقنعة، ديكور، كيروكراف، موسيقى، كانت توليفة متناغمة قدمت عرضاً سيشكل علامة متميزة في تاريخ المسرح العراقي.