ترجمة: نجاح الجبيلي
في نظر أندريه تاركوفسكي كان أناتولي سولونيتسين
(1934 - 1982) ممثلاً مثالياً. وعلى الجانب الآخر، كان سولونيتسين مُعجباً برؤية تاركوفسكي وموهبته. وكلاهما، بصفتهما من المتفانين في شغفهما السينمائي، شكلا ثنائي مخرج- ممثل رائعاً. حتى أن المخرج الشهير كان يشعر بالغيرة عندما كان ممثله المفضل يعمل مع مخرجين آخرين.ومع ذلك كلما خطرت لتاركوفسكي فكرة لفيلم جديد، كان من المؤكد أن سولونيتسين سيكون جزءاً منه، سواء كان في دور رئيس أم لا، إذ عملا معاً في كل عمل منذ الفيلم الذي حقق لهما الشهرة "أندريه روبليف".
يمكن القول إن فيلم "أندريه روبليف" قد يكون العمل الأكثر أهمية لكلٍ من تاركوفسكي وسولونيتسين. لقد كان هذا الفيلم بمثابة الفرصة التي طال انتظارها لدخول عالم السينما التنافسي بالنسبة لممثل مبتدئ من مسرح سفيردلوفسك. بعد جلسات التصوير وتجارب أداء عدة، تم اختيار سولونيتسين لدور الرسام الشهير والرمزي من القرن الخامس عشر، أندريه روبليف. وقد عارض البيروقراطيون السوفييت في البداية هذا الاختيار وكانت لديهم شكوك كبيرة تجاه هذا الممثل غير المعروف، لكن تاركوفسكي حصل في النهاية على التصريح اللازم. أثبت سولونيتسين أنه الاختيار المثالي لهذا الفيلم الذي يصور الصراعات التي شهدتها روسيا في القرن الخامس عشر، حيث تخللته النزاعات الداخلية بين الأقوام المتنافسة والغزوات التتارية الدموية، وتم تصويرها بكل قسوة. يعكس الفيلم الجو الكئيب والفوضوي لتلك الحقبة، وفي وسط كل هذا، نجد شخصية روبليف، الذي كان يتنقل، ويصنع أعماله الفنية الشهيرة، ويحاول العثور على إجابات لأسئلة وجودية.
هناك مشهد أخير في فيلم "أندريه روبليف" أظهر بالكامل تفاني سولونيتسين في عمله. إذ أخذت شخصية روبليف عهداً بالصمت وظل صامتاً لسنوات عدة. في المشهد الأخير، كان على روبليف كسر الصمت، وأراد تاركوفسكي سماع صوت خشن ومتعب. لتحقيق ذلك، أراد تاركوفسكي أن يؤدي ممثل آخر عملية الدبلجة. لكن سولونيتسين رفض هذا الأمر وأخذ عهداً بالصمت لمدة 3 أشهر بنفسه للحصول على الصوت الذي أراده تـــاركوفسكـي. اعتـــمد سولونيتسين خلال هذه الأشهر على الإيماءات، ولم ينطق بكلمة واحدة. وقبل أيام قليلة من التصوير، اتخذ خطوة إضافية وشد وشاحاً حول رقبته بإحكام ليعيق أحبال صوته. تسبب ذلك في ضعفه وإصابته بصداع، وعرّض صحته للخطر بشكل جدي، لكن النتيجة النهائية كانت كما توقعها كلٌ من الممثل والمخرج.
كان أداء سولونيتسين مثيراً للإعجاب في دوره المُفكر الكئيب كـ "الكاتب" في فيلم آخر شهير هو "ستوكر". لكن هذا الفيلم كان له تأثير مروع على
حياته.
إذ توفي سولونيتسين وتاركوفسكي وزوجته لاريسا جميعهم بسبب المرض نفسه سرطان الرئة، الذي كان نتيجة لتعرضهم للتسمم من مصنع كيميائي قريب من موقع تصوير الفيلم. إنها حقيقة مأساوية، لكنها تحمل رمزية كبيرة. فقد ترك فيلم "ستوكر" إرثاً قوياً ومكانة مشرفة في تاريخ السينما، لكنه سلب أهم ما يمتلكه مُبدعوه. هنالك بلا شك بعض الغموض في هذا الأمر.
في العديد من المقابلات مع زملاء سولونيتسين في الحقبة السوفييتية، يتكرر الوصف نفسه، فقد اتفقوا جميعاً على أنه كان شخصاً متواضعاً بحق، واسع الأفق، يمتلك كاريزما، ويتمتع بحس فكاهي رائع. وكشخصية فنية، كانت لديه هالة خاصة وقدرة كبيرة على التكيف مع شخصيته في الأفلام، سواء كانت الشخصية طيبة أم شريرة، إذ جعلها تبدو واقعية، دون أي
تزييف.
وعلاوة على ذلك، ورغم عمله مع تاركوفسكي ومخرجين سوفييت محترمين آخرين، لم يكن سولونيتسين نجماً متبجحاً أو شخصاً يسعى للشهرة. لم يكن يملك ثروة كبيرة، ولا شقة خاصة في حي راقٍ، ولا سيارة فاخرة. المسرح والسينما كانا شغفه الحقيقي، لكنه لم يحصل على أي فوائد مادية كبيرة منهما. عمل في مسارح مختلفة حول الاتحاد السوفييتي طوال مسيرته المهنية، لكن كلما أتيحت له الفرصة للعمل مع تاركوفسكي، كان سولونيتسين مستعداً. كانت الكيمياء بينهما كمخرج وممثل فريدة، وليس من المستغرب أن تتحول شراكتهما إلى بعض التحف السينمائية
الخالدة.