رافائيل ألبيرتي.. بحَّارٌ على الأرض

ثقافة 2024/11/19
...

   ترجمة: نجاح الجبيلي

يتذكر الشعراء المعروفون والأصوات الشابة في الشعر الإسباني الديوان الأكثر شهرة لرافائيل ألبيرتي "بحارٌ على الأرض"، الذي كتبه حين كان عمره 22 عاماً وفاز بجائزة الشعر الوطنيَّة عام 1924.
عندما عاد شاعر قادش رافائيل ألبيرتي من المنفى في عام 1077، كانت إسبانيا دولة فتية. بالكاد تجاوز القادة الاجتماعيون والسياسيون الجدد سن الثلاثين، وكانت محظورات الديكتاتورية تتساقط الواحدة تلو الأخرى مثل قطع الدومينو. جرى إلغاء الرقابة على الصحافة، وتمت الموافقة على الحق في الإضراب والدعوة إلى أول انتخابات عامة. لم يعد من الممكن إيقاف الديمقراطية، وهذا السيناريو المضيء يخدم الشاعر في تذكر البلد الذي كان فيه صغيراً. ثم  قال: "لقد غادرت بقبضة مغلقة وأعود بيد مفتوحة".

أراد الصبي المولود في إلـ بويرتو دي سانتا ماريا عام 1902 العودة إلى شبابه الضائع؛ لكنه ختم إلى الأبد في ديوان "بحار على الأرض"، وهي مجموعة قصائد كتبها وهو في الثانية والعشرين من عمره، وفاز عنها بأول جائزة شعر وطنية تُمنح في هذا البلد.
في بحثه عن الشباب الذي اشتاق إليه عند عودته إلى إسبانيا، استحضر ألبيرتي قصيدته "الشخص الذي لم يذهب إلى غرناطة أبداً"، وفي عام 1980 قام برحلة مليئة بالرمزية إلى مدينة قصر الحمراء، مدينة صديقه فيديريكو غارثيا. لوركا. وهناك يلتقي شاعراً شاباً جداً، لويس غارثيا مونتيرو، الذي كان يبلغ 22 عاما في ذلك الوقت، وهو نفس العمر الذي كان فيه ألبيرتي عندما كتب مجموعته الشعرية الأكثر شهرة، والتي باركها بعد ذلك الشاعر أنطونيو ماتشادو "عضو لجنة تحكيم الشعر الوطني التي مُنح جائزتها عام 1924"، الذي كتب في مذكرة عثر عليها ألبيرتي بنفسه عندما ذهب لتسلم المخطوطة من وزارة الثقافة: "رافائيل ألبيرتي، في رأيي يمتلك أفضل كتاب شعر مقدم للمسابقة". لم يفقد ألبيرتي أبداً تلك المذكرة التي رافقته في المنفى في كل مدينة من المدن التي عاش فيها.
ويبدو أن سلسلة الأجيال لا تتوقف. من ماتشادو إلى ألبيرتي، ومن الشاعر العائد من المنفى إلى الجيل الشعري الذي نشأ بإسبانيا في حرارة الحرية. من غرناطة إلى قادش، احتضن ألبيرتي جميع الشعراء الأندلسيين الشباب من أجل الديمقراطية التي تم إطلاقها توّاً: خيسوس فرنانديز بالاثيوس، وآنا روسيتي، وخوسيه رامون ريبول، وفيليبي بينيتيز رييس، وخوان خوسيه تيليز... قال لويس غارسيا مونتيرو، وهو اليوم مدير معهد سرفانتس وأحد أكثر الشعراء شعبية - مثل ألبيرتي - في البلاد: "لقد نزل من الهيكل حيث كان يتواصل مع الشباب في ذلك الوقت أكثر بكثير من التواصل مع كبار السن".
اجتمع الجميع في خليج قادش للاحتفال، بالجغرافيا الحيوية والغنائية بالذكرى المئوية لـديوان "بحار على الأرض"، وهو كتاب لا يزال تعليمه الشعري ساري المفعول، لأنه "جزء من العاطفة الشعبيّة".
وفي رحلة نظمها مجلس مدينة قادش، أبحر الشعراء الأندلسيون بمياه الخليج من العاصمة مدريد إلى إلـ بويرتو دي سانتا ماريا - بعد 100 عام من ميلاد هذه الأبيات، لاستحضار حنين ألبيرتي إلى الوطن المفقود، ومنهجه في الثقافة الشعبية بفضل كتاب "أظهر أنه يمكنك أن تحب الطليعة من دون الانفصال عن الماضي، وأنه يمكنك أن تحب التقليدي من دون الوقوع في التقليدية". كما يقول مونيرو من على متن إحدى السفن.
وقال الشاعر من قادش خوان خوزيه تيليث: "بالنسبة للقراء من أبناء جيلي، كان كتاب رافائيل بمثابة ظهور لشاعر عظيم. ولكن بالنسبة له كان يمثل الذاكرة العاطفية وحدس المنفى المستمر".
وهكذا، وفي محاولة لاتخاذ خطوة جديدة نحو تغيير الأجيال الذي يرغب فيه الشاعر، لإحياء البلد الذي كان صغيراً فيه، والذي يختلف اليوم كثيراً عن بلده عام 1077، بدأ أيضاً "بحار على الأرض" ينشد بأصوات خمسة من طلاب المدارس الثانوية الشباب والشابات، من معهد رافائيل ألبيرتي في قادش، الذين رافقوا الشعراء المخضرمين في الرحلة، وأوضحت طالبة من المدرسة الثانوية: "أنه ليس مجرد اسم يظهر في كتاب مدرسي، بل هو شاعر ذو إلهام مستمر".
والحقيقة أن شعر ألبيرتي قد أثر في أعمال أصغر شعراء هذا البلد، ولا سيما من الأندلسيين. تلك إسبانيا الجديدة والشابة الأخرى التي لا يزال صدى قصائده يتردد فيها. توضح الشاعرة الإشبيلية التي تعيش في غرناطة، روزا بيربل، البالغة من العمر 26 عاماً، أنها "كفتاة أندلسية"، كان حضور ألبيرتي في دراستها الأدبيّة "مطلقاً دائماً": "على الرغم من المئة عام التي تفصلنا عن نشرها، أود أن أقول إنّ هناك جوانب مختلفة في ديوان "بحار على الأرض" تتحدى جيلي بشكل مباشر: استعادة ما هو شائع من خلال الارتباط بالمنطقة والحياة اليومية؛ ذلك الحنين إلى أرضنا المفقودة أو البعيدة، أو التوتر بين التقليد والطليعة، الذي، على الرغم من أنه يُفترض في كل عصر بطريقة مختلفة، أعتقد بأنه يولد مقترحات مثيرة للاهتمام. أنا معجبة بتلك البساطة التي تجعل قصائد "بحار على الأرض" تلتصق بك كالملح على جسدك، من دون أن يكون من الممكن، حتى لو مرت السنون أن تتخلص منها".
تقول إحدى الفتيات الشاعرات من المقاطعات: "عندما أفكر في ألبيرتي، هناك صورتان تتبادران إلى ذهني بقوة خاصة: أولا، صورة صبي أندلسي يغادر قرية الصيد الخاصة به ليذهب إلى العاصمة؛ لاحقًا، قصة رجل يضطر إلى مغادرة بلده، منفيًا من كل ما يعرفه، لإنقاذ حياته. إن الجزء الذي يثير اهتمامي أكثر من أعمال ألبيرتي هو على وجه التحديد ما يتعلق بالهروب وفقدان الأماكن المعروفة والمحبوبة".
لحسن الحظ، لا يوجد حاليًا سياق اجتماعي وسياسي في بلادنا مثل ذلك الذي عاش فيه شعراء ذلك العصر، لكن عمليات النفي تستمر في الحدوث لأسباب أخرى نعرفها جميعاً. وليس من الضروري العودة إلى الأجيال الماضية للعثور على شهادات لأشخاص أجبروا على ترك أراضيهم لمحاولة كسب لقمة العيش.
وتوافق لورا رودريغيز دياث، البالغة من العمر 26 عاماً أيضاً، وهي أيضاً شاعرة من إشبيلية ذات رؤية وطنية واسعة، قائلة: "ألبيرتي هو أحد الأسماء التي يتردد صداها معي، وبالتأكيد لدى جميع الشعراء من نفس عمري. أعتقد بأن "بحار على الأرض" هي مجموعة قصائد ترافقنا لموسيقاها (من منا لا يتذكر الكثير من أشعاره من خلال دندنتها؟)، واهتمامه بما هو شعبي واهتمامه بالمشاهد الطبيعيَّة، من دون أن يتوقف عن التأمّل. كل هذه الميزات لها ثبات هائل وتجعل مجموعة القصائد تستمر في جذب انتباهنا".
وينتهي الشعراء الشباب، باستحضار الأبيات نفسها التي ألقاها الشاعر لويس غارثيا مونتيرو مثل الزهور المتناثرة في بحر خليج قادش، حيث كان التكريم مدهشاً. ومن على شاطئ المحيط الأطلسي، أهداها إلى وطن طفولته، الذي، كما يقول ريلكه، هو الوطن الحقيقي الوحيد: "لأنني أخذتك معي لسنوات عديدة/ ولأنني غنيت لك كل يوم تقريباً/ أدعو قادش دائماً إلى كل شيء مبارك/ الشيء المضيء الذي حدث لي".
عن صحيفة "إلـ باييس" الإسبانية