أنسام الساعدي
"الأمهات" لحمدان طاهر مجموعة شعرية صدرت حديثاً عن دار الشؤون الثقافية العامة، ويتضمن كتاب المجموعة 48 قصيدة نثرية، في 104 صفحات، جميعها في أدب الأم.
وبدءًا من بيت أمي ووضع الطائر بيضته إلى الرحلة الأخيرة، سيرى المتلقي فعلاً أن الذي بين يديه هو كتاب له مقدمة وفصول ونهاية، وكأنه سيرة ذاتية شعرية للأمهات فقط. الأمهات هذا النهر المعطاء المانح للحياة، لذا هي كتابة عن الرب العرضي في الأرض، الذي يمنح كل شيء، ولا يترجى أو ينتظر من الابن رد المعروف، إنه عطاء بلا
مقابل.
الشاعر في قصيدته الأولى التي يستهل كتابه بها هي (بيتُ أمّي)، كمــا يقــول: "أعرِفُ أن الطّريقَ موحِشٌ/ حيثُ الزّمانِ والمكانِ/ يتخِّذَانِ هيئةَ طائرٍ غريب/ صوتُهُ الذي يمسُّ رأسيَّ/ يشبه غمس منقارٍ في سَاقِية/ أحمِلُ على ظهريَ قِربةَ الأيَّامِ/ محافظًا عليها من التّسَربِ/ لَمْ تَكُنْ نَادِرةً أو ثَمِينَةً/ لكنَّها حياتي/ أنها بيضةُ
الطّائِر".
وفي عنوان قصيدة (بيت أمي) إشارة واضحة للمكان، أي مكان الولادة، يبدأ قصيدته بفعل مضارع، بالمعرفة المسبقة للزمان الذي سيعيشه، والطريق دلالة على وحشة الحياة وقساوتها، وهذا استشراف شعري، وليس استشرافاً حقيقياً وإلا كيف يعرف الطفل الحديث الولادة ما ستؤول إليه الأمور في حياته؟ إذن هو استشراف شعري واع، بدلالة الجملة الشعرية الوصفية للزمان والمكان، اللذينِ اتخذا هيئة طائر غريب، وتشبيه صوت هذا الطائر وربما هذا الصوت هو الطلق للمرأة عند الولادة، ثم تشبيه هذا الطلق بغمس منقار في ساقية، وهذه الصورة أقصد غمس الطائر منقاره في برودة الماء من الظمأ، وكأنها حالة وصفية سردية شعرية على ولادة الشاعر. فما أبهاه من مجاز شعري لافت للذائقة، محدثة دهشة شعرية هائلة.
ثم انتقل إلى فعل مضارع آخر أيضاً وهو الفعل (أحمل) وماذا يحمل الشاعر على ظهره؟ إنه يحمل هذه الأيام المثقلة بالحزن والفقد والآلام واصفًا إياها بالقربة التي ربما تتعرض إلى ثقوب سبق، وإن أشار لها الشاعر في بداية النص، الذي يحاول أن يحافظ عليها قدر المستطاع من رماح وسهام الزمن التي تأتي على حين غرة، أيام بسيطة وترابية، لكنها حياة الشاعر وذاته، المقرونة بحب الأم المقدس الذي لا يعلوه حب أبدًا، وحياته التي أحبها، لأنها بيضة ذلك الطائر التي هي أم الشاعر.
ما دامت الأم على قيد الحياة يسعد بالنظر إلى وجهها الجميل ويشم عطرها الملائكي، ويسمع صوتها العذب، لذا تمسك بهذه الحياة بشرط وجودها، فكيف إن غادرت هذه الدنيا، هل بقي هذا الحب للدنيا؟ وحتى لو بقي على مستوى الحقيقة والواقع، لكنه مشوب بالحزن
المعتق. لذا نرى حنيناً وتوقاً لتلاقي الجزء بالكل. وهذا الحنين يتضمن المعنى بمستوياته الثلاثة الهزال والضعف البكاء والحسرة والتوق للحبيب، وهو ما سنعرفه بقصائد أخرى في المجموعة. يرفدنا حمدان طاهر بكم شعري هائل بحب وحنين جمالي وإبداعي في أدب الأمّ، مليء بالدهشة وعدم التوقع والشعرية والشاعرية
معاً.