د. صباح التميمي
ثمة علامات تكشف عن هوية الشاعر الممسك بشاعريته بحِرَفية، تقول بتجلياته وممكّنات خلقه الشعري، وتشي بوعيه، أهمها: اتقان معمار التجربة الشعرية.
وأنظر للمعمار هنا على أنه العمود الفقري لشعرية التجربة، والتكنيك الكاشف عن وعيها بنائياً رؤيويّاً، ويتوزّع المعمار في التجربة المقروءة هنا على: معمار أفقي، ويظهر على مستوى النص، ومعمار عمودي على مستوى المدوّنة كلّها، ويبدأ من العتبات حتى التظهير.
واتقان المعمار رهان صعب، لا يجيده إلا الشاعر المحترف، فهو مرهون بالوعي بالتجربة بوصفها خطاباً ممتداً لا متقطّعاً، بوصفها لعبة خفاء لا يكشف سرّها إلا المولع بالكائن الشعري الرؤيوي الامتدادي، لا بتلك المدوّنات الكولاجية التي تلتصق في جسد معمارها نصوص لا خيط وصل بينها، سوى أن مدوِّنَها فكّر في أن يجمعها تحت سقف عنوان واحد بطريقة غير شرعية.
إن الشعر الحقيقي قراءة ممتدة باتجاه النهايات المفتوحة، هو كائن عابث باتزان متقن، يعيد إنتاج المعجم بطريقة هندسية، فيقترف لعبة تحوّلات تنتقل من الثبات إلى الحركة الممتدة باتجاه تخليق البعد الرؤيوي المتّصل لا المنفصل.
قاسم الشمري في "حروف لم تصل لأبي" رؤيوي محترف، مهموم بهندسة معمار "شعريته" حتى في "قصيدة النثر" رغم عموديته المفرطة، وقد بدأ تشييد هذا المعمار في مدوّنته منذ مناطقها التعتيبية الأولى، وهو ما أسمّيه هنا بـ "المعمار الموازي"، والمتمثّل بخطاب النصوص الموازية: "عنوان رئيس، عنوان فرعي، إهداء، تنويه ختامي، هوامش"، ويقابل هذا المعمار "المعمار المَتْنِي" على المستوى العمودي، الذي يتشكل بعلاقات امتدادية تتعالق فيها المكوّنات مع بعضها؛ لخلق سلسلة رؤيوية تنتهي بتنويه ختامي.
إن ثمة ذبذبات تشحن جسد المدوّنة كله بهذا العنصر الرؤيوي الممتد الذي يشكّل أبجدية المدوّنة، ونريد بالأبجدية -هنا- العناصر المكوّنة لـ "شعرية مدوّنة الفقد الخاصة كلّها"، وتبدأ هذه الأبجدية بعتبة عنوان رئيس: "حروف لم تصل لأبي" وعنوان فرعي تجنيسي واعٍ يتعالق مع اسم الشاعر تعالقا تماهيا واتصالا وهو: "حروف أضافها إلى الأبجدية قاسم الشمري". الحروف التي لم تصل لأبيه -كما يبدو لنا- هي أبجديته الخاصة التي أضافها وهو يخاطبنا بها مستذكرا والده في قصائد نثر "سير ذاتية" تتخللها بعض عموديات لكسر سيولتها، وقد عنونَ كل قصيدة داخلة في المتن بكلمة "الحرف + رقم" وجاءت بتسلسل تصاعدي، وهي استعادة لتكنيكات صوفية، ليدخلنا في لعبة إشارات غامضة تثير الأسئلة: فلماذا أربعةَ عشرَ حرفاً؟ هل هي "مناجاة" تتشكّل من "مواقف ومخاطبات" بهذا العدد؟ فالحروف والأرقام علامات مرنة تحتقب تأويلات رحبة في أدبيات التراث الصوفي، فهم يقولون: "ليس من حرف إلا ويُسبح الله في لغةٍ ما"، هل كان الشاعر يسبّح لوالده؟ هل كان يتوسّل برقم عقائدي؟ فعدد المعصومين أربعةَ عشرَ أيضا.
هل يريد الشاعر أن يصنع أبجديته العرفانية الخاصة مثل "السهروردي" الذي قال فيما مضى: إنه تلقّى تعليماً في أبجديةٍ سريّة كي يتمكّن من فهم أعمق؟ هل يشي هذا بتأثّر شديد بأدبيات "الحروفيين" من المتصوّفة؟ لماذا لم يعطِ أبجديته حروفاً، لماذا جعلها مبنية على الترقيم؟
لماذا توقَّف عند هذا العدد من الحروف بحيلة "موازية" فعَّلت "عتبة الهامش"، لتحيل المتلقي إلى عوالم سياقية جديدة خارج أسوار المدوّنة الشعرية حين قال في هامش النص الأخير الذي يحمل عنوان "الحرف الرابع عشر": "همزة قطع: أقترح عليك عزيزي القارئ أن تستمع الآن لأغنية "أنت من رفعني" لجوش كروبان".. محيلاً على مدوّنة غنائية معروفة لمغنٍّ معروف بمواقفه حيال الأيتام، هل هذا الفعل الشعري اعتباطي؟ هل توقُّف جريان الشاعر هنا فعلٌ لا إرادي أم هو حركة إرادية مقصودة؟
كل التأويلات التي تتفرّع عن هذه التساؤلات تشير - عندي - إلى أن الشاعر كان تحت ضغط معاناة، كانت "لغة الفقد وأبجديتها" تُفجّر داخله تيارات من الأسى المتراكم، الشاعر كان بحاجة إلى أن يصرخ حتى بعد عشر سنوات تفصله عن الفقد المادي الفيزياوي لوالده؛ لأن فقد "المعنى: معنى الأب" بقي عالقاً فيه، لذا خرجت هذه الصرخة "الحروفية" على شكل مناجاة، وتوسّلات برقم عقدي، في محاولة لتخفيف الضغط عن الذات، لذا نسمعها تكتب بوحها الأخير في نص "الحرف الرابع عشر" الذي يمثّل الصرخة الأخيرة قبل الولادة الجديدة للأب في الابن: "آن لي أن أمزّقَ/ وسادتي التي تعلّمتِ الأرقَ/ آن لي أن أسألَ/ ذاكرةَ المرآة عنّي/ آن لي أن أقولَ لكَ/ أبي.. أعدُكَ بأنّكَ/ ستولدُ من صلبي/ فلا تزال الشمسُ تُشرق".
بقي أن أشير إلى أن هذه المدونة تتوسّل - فضلا عمّا تقدّم- بآليات شعرية مثيرة في المعمار الداخلي الملازم للقصائد، كعتبات الخروج الشعري "همزة قطع وهمزة وصل" و"عتبات المقدّمات" الملازمة لكل نص، والتي تحضر بصريّاً بعد عتبة العنوان، في شكل نثري يهيمن عليه السرد الوصفي، وفي قصائدها النثرية، التي هيمنت على المجموعة - وهذا له دلالته طبعاً - تستعين بإيقاع داخلي بصري لي أن أسمّيه "التدوير البصري النثري" على غرار تدوير التفعيليين، فالجمل الشعرية تتقطّع قبل أن تكتمل في السطر الشعري، لتأتي تتمّتُها في السطر الجديد، في سلسلة تعالق بصرية إيقاعية دلالية مهمة.
مجموعة "حروف لم تصل لأبي" أبجدية فقد شعرية تمثّل في تجربة قاسم الشمري انعطافة شعرية جوهرية أملتها عليه ظروف "سير ذاتية" شكّلتها بهذا المعمار الفنّي الخاص، وأخرجت الشاعر من فخ الوقوع بـ "التنميط". هي - برأيي - مدونة مهمة بحاجة إلى قراءة أكبر مساحة من هذه القراءة التي تقتضيها مساحات الصحف، هذه القراءة هي بمثابة المدخل لبحثٍ سيأتي.