رؤى إنسانية ملّونة

ثقافة 2024/11/25
...

 إحسان العسكري



في فضاء التحول من الجدية إلى مساحة الدقة ثمة نقطة عبور لا يمكن ملاحظتها بوضوح, فهي بقدر ما تعطي مجالاً مغيباً للوجهة الذاتية في نفس صاحبها- أي أن اعتمادية النظرة الواضحة- تأتي غالباً من شيء ملموس يمكن الوثوق بوجوده.. وهذا لا يحتاج لمسافة انتقال واضحة بأثر معين في حالة تتقمصها, كذلك هو الفنان الفراتي هاني دله علي في أعماله العالمية, إذ حرص على ألا يترك مجالاً يمكن لغيره أن يستغله للوقوف بوجه ما يريد أن يظهره, فبطبيعة الحال يعتمد رواد المدرسة التعبيرية في الفن التشكيلي على رؤى المشاعر لا النظر, وأن أسلوبهم بمثابة نقل التصور الشخصي للعواطف الإنسانية العامة وذلك بترك التكتيك التقليدي, والاعتماد على الفحوى وإبراز النتائج بإظهار الجوهر الداخلي  للإنسان عبر العمل المنتج. 

ولكن المتابع لأعمال هاني دله علي يمكنه ملاحظة استغلال كل مساحة متاحة في ذاته, متخذاً من التنوع الحسي مساحة لإشراك التعبير بالتجريد وجعل من ذلك منطلقاً لرسالته التي يحب إيصالها, فهو من القلة الذين يؤمنون بأنفسهم, لذا تبدو أعماله حقيقية جداً, كأنها واقعية على الرغم من أنها قد رُسمت ووفقا للمدرسة التعبيرية بأسلوب تجريدي شخصي أفرده هو. 

أعتقد أن الفنان ينتمي بشدة لجذوره, فالحيرة العراقية واضحة جداً, لم تتمكن ضربات الفرشاة والخطوط من إخفاءها, فهو ابن بيئته الذي ما أنفك يميل لكينونة المرأة وعمق الفكر ووضوح الأصالة في نقل الحدث. وهنا تنطبق رؤاه مع مقولة الروسي فاسيلي كاندينسكيو, بأن "الفن يجب أن ينفصل تمامًا عن المراجع المرئية الصارمة والدقيقة، وأن يُثير بدلاً من ذلك المشاعر من خلال الشكل واللون

فقط".

المُلاحظ أيضاً أن لجميع أعمال هاني دله علي رؤية منطقية للجمال, وهو من القلة غير المتأثرة بأجيال اخترعت واعتمدت هذه المذاهب في الرسم, إذ يبدو ميله للتراث المحلي واضحاً, وهذا ما جعل التميز سيد الموقف فيما قدّم من نتاج, بل وحتى في النحت والتصميم, فهو أيضاً نحات ومصمم من الطراز الفريد, وخريج دورة ترميم من بولندا. لقد زينت أعماله الفنية ساحات وشوارع الأنبار كـ "نصب النخلة, والنقطة" وغيرهما. 

إن استخدام الفنان للإثارة البصرية عبر دمج الألوان وخوضه العميق في الجانب التراثي الإنساني واعتماده الأبعاد المحلية في إبراز الرؤية الخاصة به, وإيمانه بالحب عبر رمزية الألوان, خاصة الأعمال التي تستهدف المرأة والطبيعة بمحلية مبهرة, إذ لم تترك فجوة بينه وبين ماهية المذهب التعبيري ولم تبعده عن التجريد والسريالية أبداً. 

منذ نشأت المذهب التعبيري للمرة الأولى في ألمانيا وبعض الدول الأوربية على يد كوكبة من الفنانين الشباب بداية الألفية الأولى وحتى قبل الحروب العالمية, أخرج في لوحاته صوراً غنية حية منحت للمتلقي فرصة الذوبان في مهرجان إنساني حسي عبر أسلوب دمج الألوان واختيار الموضوع وإنتاج الفكرة, فكانت موضوعاته كذلك تتميز بنبرة مجتمعية هي الأقرب للفلسفة الصورية -إن جاز لي القول- وإعلان شفيف لحالات الحب والاشتياق, وكل هذه التبدلات التي تغازل الحالة الإنسانية بموازنة دقيقة وواضحة بين الانتماء الحقيقي للبيئة والعالمية الراقية, مما جعل الأخيرة في متناول يد هاني دله علي, فعِـبر نعارضه الفنية تمكن من أن يجد له مكاناً بين قمم الإبداع والمبدعين, فلم يكن عمره الفني إلا زاخراً بالعطاء والإبداع, ولم تكن شهادته الأكاديمية في الفنون الجميلة إلا من أجل ما حصل عليه, فمشاركاته الفنية في عواصم العالم مثل "اليابان, بولندا, كوريا, فرنسا، أمريكا، انجلترا, بلجيكا, مصر, لبنان, الإمارات" والتي انطلق نحوها من بوابة الفرات مدينة هيت حيث ولد عام 1969, ثم شابه الذي أغنته بغداد بكل جمال أنتجه لبلده والعالم والإنسانية.

ما أنتجه هاني دله علي ليست مجرد أعمال تنبع من موهبته, بل إنها يعتبرا عن حالة فريدة من نوعها, سيما ونحن نتحدث عن فنان عراقي ولد في مدينة تشكل حلقة الوصل بين النهر والصحراء, و نشأ في أجمل عاصمة في الشرق الأوسط في فترة زمنية كانت مليئة بالحروب والانتقالات السياسية والاجتماعية.. لقد عاش متنقلاً وهو يعلن للعالم أن الأصالة العراقية هي الأساس, وأن الفن هوية الشعوب والناطق 

باسمها.