حازم رعد
نشأت الفلسفة في جغرافيا اليونان التي لم تعهد ديناً بمعناه الكامل من عقائد وشريعة وعبادات إلا بعضا من الأفكار "كالاورفية والمانوية" بوصفها تمتاز بأنها شعائر وطقوس كانت وافدة من الهند وبلاد فارس. وعادة ما يلجأ الناس إلى الأديان كلما كانوا بحاجة إلى إجابة مقنعة عن الاسئلة الوجودية الكبرى من قبيل "أصل العالم ومصيره، وكذلك لتفسير جملة من الظواهر الكونية وما إلى ذلك". وبما أن اليونان لم تعهد ديناً يجيب عن تلك الاشكالات لجؤوا إلى طريقة أخرى في التفكير واضعين في اعتباراتهم قدرتها على إجابة التساؤلات وحلحلة الاشكالات، وهذه تدعى "طريقة التفكير العقلي".
ومن هنا برزت أولى ملامح هذا اللون من التفكير القائم على اعتماد العقل مصدراً أساسياً للمعرفة، فقامت الفلسفة على انقاض ما يعرف بالأدب. وهو الاساطير والأشعار التي ورثها اليونانيون عن هزيود وهوميروس والتي كانوا بموجبها يضعون تفسيرات لظواهر كانوا يشاهدون حدوثها، مثل ظاهرة الخسوف والكسوف، وسقوط النيازك، وانفجار البراكين، وتعاقب الليل والنهار، وهي ظواهر كانت تثير الدهشة عند الإنسان، وتتطلب منه موقفاً معرفياً يحلها ويجد لها إجابات تشفي ظمأ السائل.
يمكن القول إن عدم وجود دين بالمعنى الاحترافي للكلمة، وكذلك وجود الاساطير كانا عاملين رئيسيين لنشأة الفلسفة، وهذا العامل هو الذي عزى بعض المؤرخين للقول بأن الفلسفة لم تنشأ في حضارات الشرق القديمة، لأنها عرفت الدين وتوفرت عليه، بينما في اليونان فلم يكن لهم عهداً بالدين بمعناه الواسع الاحترافي.
ولكن ما يلفت النظر، أن اولئك الفلاسفة الأوائل الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية الاجابة عن تلك التساؤلات الوجودية التي تتعلق بالكون، كانوا أقرب إلى كونهم علماء طبيعيين، لأنهم اعتنوا بالكزمولوجيا أو أنهم كانوا فلاسفة علم، لأن أفكار أولئك الافذاذ كانت تتوسل منهجاً مادياً في تفسير العالم والوجود. فمثلاً طاليس الذي حدثت معه الانتقالة النوعية الكبرى في تاريخ الفلسفة -أي تحول البحث في ظواهر الوجود والعالم من اعتماد المثيوس إلى تبني اللوغوس والمنهج العقلي في تفسير تلكم الظواهر- قال بأن الماء هو أصل العالم، بينما تلميذه انكسمندر كان رايه مختلفاً، إذ رأى أن أصل العالم هو الهواء، والذريون هم إتباع "ديمقريطس ولوقيبوس" تبنوا فكرة الذرات الصغيرة المتجمعة التي تشكل العالم، وهيراقليطس ذهب إلى أن النار هي أصل الوجود، وهكذا نلحظ أنهم أشبه بفلاسفة علم، أو يمكن تسميتهم بالكوزمولوجيين لو توخينا الدقة أكثر.
في حين راح البعض إلى القول إن المدينة - الدولة سبب أساسي في نشأة التفلسف أي أن "طرح الفكرة مصحوبةً بالدليل عليها"، فقد شاع في مدن اليونان القديمة اجتماع المواطنين الأحرار لمناقشة الأوضاع السياسية لمدنهم، وكانوا يطرحون الأفكار برفقة دليلها لتبيان أهمية ما يطرح كونه الحل الأنسب لمعالجة حالة سياسية معينة لأن ما طور عند جماعة من هؤلاء القدرة على الاستدلال وتوسل البراهين، فظهرت إلى الواقع الفلسفة التي ليست هي إلا طريقة في التفكير مصحوبة بالدليل العقلي، حتى قيل إن الفلسفة بنت المدينة أي أن المدينة - الدولة كانت عاملاً في ظهورها.
وإذا نظرنا بعمق إلى كل ما سبق نلاحظ أمورا مهمة: أولها أن أسباباً عدة ساهمت بنشـــــأة الفلسفة ولم يكن سبباً واحداً بعينه هو المسؤول عن ذلك، وهذا يدلل على أهمية الفلسفة بوصفها مجالاً حيوياً في الواقع. أما الأمر الثاني فهو أن الفلسفة تتداخل عملياً مع حقول ومجالات معرفية وممارسات عملية عدة، فهي متداخلة مع العلوم والطبيعيات، لأنها تبحث في ظواهر الكون والعالم وتقدم إجابات في هذا الشأن، وكذلك تمتزج مع السياسة بوصفها تشكل مبادئ كل سلوك سياسي للدولة.
تاريخياً، الفلسفة لا تزال تهتم في هذا المجال الإنساني المهم، فمذ عصر افلاطون الذي أسس الاكاديمية في اليونان كان يهدف إلى ايجاد رجال أكفاء بمقدورهم ممارسة السياسة كفلاسفة يحكمون بأنظمة العدالة حتى اليوم الذي نحن فيه الآن تسعى الفلسفة إلى اقتراح أشكال مختلفة من الأنظمة التي تدبر شؤون الحاكمين والمحكومين، وقد ولدت نظريات كثيرة من رحم الفلسفة تجري في هذا الاتجاه من قبيل "الجمهورية واستعادة الفعل السياسي ونظرية العدالة كأنصاف، والتواصلية العقلانية والشيوعية والبرغماتية وغير ذلك من نظريات أخرى" وأيضا نلاحظ أن الفلسفة طريقة تفكير تساعد على تطوير السياسة الاقتصادية عبر البحث والتحليل والنقد، وهي أدوات العقل التي من خلالها تعرض على الأشياء وتتناولها.
إذن الفلسفة تتحرك من جميع الجهات وإلى الجهات جميعها، وهذا التعدد في عوامل نشأة الفلسفة قوة وثراء لها وليس مصدر ضعف على الاطلاق.