خضير الزيدي
لا يمكن النظر إلى منجز الفنان غسان غائب من دون الأخذ بالاعتبار طريقة تفكيره في إثبات النزعة الفرديّة لتأكيده المتواصل على وجود فن يمتلك مقومات الطرح الفلسفي والجمالي معاً. وهذا المسعى ليس وليد معرضه الأخير المقام على قاعة الأورفلي في عمان، والذي ضمَّ فيه ثمانية عشر عملاً بين لوحة واوبجكت مجسم، فقد سبق أن أنجز أكثر من معرض شخصي يلجأ فيه إلى جعل دعائم رؤيته أكثر تماسكاً في الخطاب الفني، وهو هنا لا يبدي قوة خيال بقدر ما يؤكد على مسعى الطرح الفني باستقلالية يراها ذات تصور أو حاجة ملحة تُدار بفعل "تبعية عقل لا يميل للسكون" ليمكننا من معرفة وجهته من خلال التأكيد على شكل "المثلث" فهو يراهُ ذا بعدين أو تصورين: الأول يأخذ سمة الصعود والتعالي، بينما ينظر إلى الجهة الثانية تبعيّة الهبوط إلى الأسفل، وكأنّه يريد هتك العوائق التي تحيط بلعبته الشكلية أو معياريته الأسلوبيّة.
لقد قدم للمتلقي في عمان أكثر من عمل يتطلع فيه عبر تقنية الرسم أو العمل التركيبي إلى وضع فن يبدو ذا قدرة متزنة من حيث الرؤية، وبما أن أعماله تمثل طرحاً يخضع لفكرة واحدة، فقد أتت بشكل ملتحم ومتزن لتكون الأشكال في تعالق له مرجعان الأول يكمن في البنائيّة التي يبدو فيها التوازن أكثر حضوراً في استعادة طابعه العام، وخاصة ما جاء عبر عمليات اللون ومكوناته الأساسية والابتعاد عن الانفعال في بلورة الأشكال المراد تأكيدها. والثاني بدا جلياً في عمليات التركيز والاستغراق في طرح فكرته ومحاولة بيانها. واستحضر هنا رؤية لسيزان يقول فيها "من خلال التركيز والبحث يجب أن يكون الفنان قادراً على تحقيق النظام في حالة الاضطراب المحيطة به". قد تنسجم تماماً مثل هذه المقولة على ما يريده غسان غائب من خلال انجاز أعمال اتخذت من شكل "المثلث" قاعدة بنائيّة لها وجهتها. الملفت أن معالم الاثارة التي يبديها لا تشتغل على مساحات معينة، إنما تكمن في الفكرة التي يبينها، فبقدر ما نجد الحضور التجريدي الملتصق في العمل نجد الاشتغال على مستويات الممارسة في التجريب لبيان، وتأكيد الرؤية المنتقاة فأعماله ذات طابع ابتكاري خاضع لمعيار العمل الفني. الذي يهمنا في هذا السياق الموقف المتخذ والتمثيل المعلن، فهل تحتاج منجزاته الأخيرة في معرض الاورفلي إلى توافق في الدلالة التصويريّة وما يريده المتلقي من فهم لصياغة العمل وأبعاده المعرفيّة؟.
ميزة غسان غائب أنّه مثابر وغير عجول في إبداء قدرته في عالم الفن، لأن الحرص الذي يقدمه أو يفكر فيه جعله باحثاً ومؤولاً، فهو يستلهم أو يقتبس من فكرة معينة في خياله خاصية دلالتها ويوائم بين تفاصيل أكثر دقة في بيان العمل الفني وبين مراجعه الفكرية. وهنا سنجد استثماراً للمخيلة ومراجع أساسية بقيت في ذاكرته كما يؤكدها من خلال رحلته إلى الاهرامات في مصر وتأمل صياغة المثلث هناك، وحسب ما يقوله حول المثلث "اقترن ذلك المثلث الضمني والفعلي بسياق روحي ومادي معماري يوحي بالامتداد والجلالة، وهذا الاحساس لمسته وأنا في الثانية عشرة من العمر خلال زيارتي
لمصر".
لنقل إنّه مجدد في الفن لكي يحيي فكرته الراسخة في ذاكرته وذهنه، وهو يُعزز من خطابه الفني ليس للتوصيف أو الاظهار، إنما لأنّه متيقن من أن الفن في نهاية المطاف لا يخلو من الأفكار الحية التي يُعلل اختيارها ويؤكد اختبارها
أمامنا.