هل فقدت الجامعات تأثيرها الثقافي والاجتماعي؟
استطلاع: صلاح السيلاوي
كان آباؤنا وأجدادنا يتحدثون عن الجامعات بوصفها حلماً ذهبيَّاً لطرق أبواب المستقبل والاقتراب من حياة فريدة، يدنو فيها الدارس من كبار المثقفين ويلمس حقائق جديدة لم يشهدها عن عالم المعرفة والعلم والمدنيَّة. كان الأثر واضحاً على طالب الجامعة، فهو ينتقل بدخوله إليها إلى عالم آخر، كمن استبدل عينيه بمجهرين جميلين، كان المجتمع يستدل على ذلك الطالب بأسلوب حياته وتعامله ولغته.
أما الآن فنادراً ما يستطيع المجتمع أن يميزه عن غيره، هذا يعني بوضوح تام أن الجامعة لم تعد تؤثر في طلابها، فكيف لهذا التأثير أن يصل عبر طلبتها إلى المجتمع.
لماذا على الجامعة أن تكون أحد مصادر الفعل الثقافي؟، هذا سؤال مهم، يتضح في إجابته مدى جدية الجامعة في صناعة الأثر الإنساني. الكليات المعنية بالشأن الإنساني تدرس الأثر الثقافي، ولهذا فهي يجب أن تكون قريبة دائماً من الحياة الإبداعيَّة، قريبة من فهم أسئلة المبدع وآفاق أحلامه، قريبة من مواجعه، وأسبابها، من أهدافه التي واجه في سبيل تحقيقها مرارات الحروب وجبروت الطواغيت، لهذا كله على هذه الجامعات أن تكون قادرة على صناعة جيل عارف بتاريخه الثقافي وأهمية أثره في صناعة مستقبل مختلف.
الكليات المختصّة بدراسة الثقافة الإنسانيّة لم تستطع أن تقدم إحصاءات لعدد الكتاب ومنجزاتهم ولا مكتبات توفر مؤلفاتهم ولا سيرهم الكاملة ولا توجد في الغالب دراسات شاملة عن الحراك الإبداعي والثقافي وطبيعته في المدن العراقيّة ما عدا القليل.. القليل مما ذكرت.
لذا تساءلت في حضرة عدد من المثقفين: ما رأيك بالأثر الثقافي الآني للجامعات العراقيّة في المدن التي تضمها بشكل خاص والعراق بشكل عام؟، هل تقدم الجامعات فعلاً ثقافياً مؤثراً في صناعة أجيال جديدة؟.
أيمكن أن نجد جامعات صنعت فارقاً واضحاً في محيطها الاجتماعي، هل أسهمت الكليات المعنية على تنوع اختصاصاتها في دراسة محيطها الثقافي وأثرت فيه؟، هل استطاعت هذه الجامعات أن تكون جسراً مهماً بين طلبتها والمثقف العراقي عبر تأسيس مكتبات تسهم بتعريف الطلبة بصنّاع الأدب العراقي وروّاده مثلا؟، هل هناك تجارب مشابهة على هذا المستوى في ما يخص الكليات المعنية بدراسة الفن التشكيلي والفنون الأخرى؟.
ألا ترى معي أن المستوى الثقافي للطالب الجامعي لم يعد يمكّنه من فهم ثروته الثقافيّة وأهميتها وقدراتها في التغيير الاجتماعي؟
النظام الداخلي للأيديولوجيا
القاص ميثم الخزرجي، يرى أنَّ فاعلية الدرس الأكاديمي الذي ينبثق من الجامعات على تنوّع توجهاته العلميّة والإنسانيّة له اعتباراته القيميّة وسياقاته المحكمة التي من المفترض أن لا تخرج عن صرامة الضبط والمعيار، ويجد الخزرجي أن تظليل المعيار وخفوته نسبياً يخضع لكثير من المسبّبات التي تحاول أن تعطي وجهاً مخالفاً للصورة الحقيقيّة التي تصدر من قبل المشغل الأكاديمي، مشيراً إلى أهم الأسباب التي حطّت من قدر الدرس، بل بشّرت بثقافة منكوصة تُحاكي واقع الفرد العراقي، هي الدخول في معمعة الحرب وتمرير النظام الداخلي للايديولوجيا في المناهج التربويّة والتعليميّة مكوّنة وجهاً تعبوياً يتناغم مع أنساق السلطة ومرجعياتها الثقافيّة.
وأضاف موضحاً: ومما لا شك فيه، أن هذا التناغم لسياسة الدولة ومؤسساتها التي تُدير الشأن، شكّل علامة فارقة وخللاً في بنية الإنسان المفاهيميَّة لتخلق لنا منظومة تتعاطى بصورة كلية مع الأبعاد الفكريّة لصنّاع القرار، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت أن أي مشروع جمالي أو معرفي سلّط عليه الضوء أرادت به السلطة خدمة أجنداتها والترويج لأغراضها، مع التحفظ الكبير على كثير من الأسماء التي سعت عنوةً للاقتراب من هرمها وتمثيل سماتها في مدوّنتهم، وهنا أشير الى مسألة غاية في الأهمية، أن هذه الأزمة الوجوديّة التي عاشها الإنسان العراقي شكّلت له قلقاً جوانياً بعدم الاستقرار، فنجد اللبس الذي حصل منذ منتصف التسعينيات والفجوة المعرفية التي كانت السلطة أداة لها، فنرى الكثير من أبناء تلك المرحلة تخرجوا من اختصاصات تعنى بالفن والأدب، لكنهم لا يمتلكون المؤهل الكافي والمحصلة الجيدة لاجتياز هذا الاختبار غير أنّهم دخلوا الى هذه الأماكن قصداً بسبب الخلاص من الحرب وعدم اقتناعهم بالموت الذي
ينتظرهم.
وقال أيضا: واقعاً أجد أنّ هذا الأوان التكنولوجي والعصر المعلوماتي الذي أعدَّ لنا صورة مفاهيميّة جديدة لا تستطيع الذهنية الحالية أن تمسك بمقدراتها البشريّة أو أن تعي حقيقتها، فعلى الرغم من توفر سبل المعرفة وتعدد صنوفها الكثيرة بيد أنّها غير متعافية بسبب تزاحم وسائل التواصل الاجتماعي وبرامج المدونات الالكترونية ومتصفّحات الانترنت ليصبح الإنسان على اختلاف ثقافته وانتمائه لا يتعدى كونه حقيبة معلوماتية ليظهر نشاطه افتراضيا عبر صورة شخصية او فعل اجتماعي لا يندرج من ضمن حلقات الدرس والمعرفة، وقد انعكس هذا التأثير على المستوى الثقافي والجمالي أيضاً، فما عاد هناك محرّض نفسي يمتلكه طالب المعرفة أو واعز جدلي لاستحصاله على معلومة فضلاً عن ضآلة العلاقة بين التلميذ وأستاذه، وعدم تعيين النقطة الجوهرية بين طالب العلم وطبيعة المثل العليا التي من الواجب أن يمتلكها واهب الدرس، أنا هنا أتحدث عن الغلبة المشكلة لهاجس أبناء هذا الجيل وليس عن أفراد يسعون لأن يستحصلوا على الجدة في هذا المضمون.
أثرٌ ضعيف
رئيس اتحاد أدباء الأنبار الشاعر محمود فرحان الدليمي، يؤكد في إجابته على أنّ الجامعات على اختلاف تخصصاتها المعرفية تعدّ مصدرا مهما من مصادر الإشعاع والتأثير الواسع في المجتمع المحيط بها، مشيراً إلى أهمية وضرورة أن تكون الجامعة فاعلة في تصدير العلوم والمعرفة لمحيطها، لا سيما أن هذا من أساسيات العمل الجامعي بشكل خاص.
وقال الدليمي مضيفاً: وقد لعبت العديد من الجامعات دوراً مهماً في هذا المضمار من خلال إقامة الفعاليات الثقافية والمعرفية بالتعاون مع بعض المراكز والمنتديات الثقافية المنتشرة بشكل واسع وكبير، وقد استضافت بعض الجامعات الكثير من الرموز الثقافية لإلقاء المحاضرات العلمية والثقافية في الوسط الطلابي الذي استفاد من هذه الفعاليات بشكل واضح ورائع.
ولكن يظل الأثر الثقافي للجامعات اليوم ضعيفاً ولا يكاد يغطي مساحات واسعة في المدن التي تحتضن تلك الجامعات وذلك يعود لأسباب عديدة منها انشغال التدريسيين ببحوثهم الخاصة بالترقيات والنشر في المجلات المحكّمة، إذ يبعدهم هذا النوع من العمل عن الوسط الأدبي
المحيط بهم فيقل التواصل. وهذا له سلبياته الكبيرة في مجال المعرفة إذ إنه لا بدَّ من تلاقح الأفكار والاطلاع على تجارب المبدعين من كلا الجانبين وأعني بالجانبين الأكاديمي وسواه، وهذا بلا شك يؤثر في مستوى الطالب الذي يبقى حبيس جدران الدرس دونما اطلاع يذكر على إبداعات الكُتّاب والمثقفين خارج الوسط الجامعي، هناك محاولات جيدة تقوم بها بعض الكليات مع الوسط الأدبي تتمثل في إقامة محاضرات وورش عمل ثقافية وزيارات متبادلة وإثراء مكتبة الكلية بنتاج الأدباء على وجه العموم، ولكنها تظل محاولات قليلة تحتاج إلى تفعيل وإثراء أكبر وهذا يتأتى بمضاعفة الجهد من قبل الأساتيذ في الكليات مع الأدباء والتواصل المثمر فيما
بينهم.
وبهذا نستطيع إيجاد وسط أدبي وجامعي رائع ينتفع به الأديب والأستاذ والطالب على حدٍّ سواء.
أمة اِقرأ
الناقد الدكتور كاظم عبد الله تحدّث عمّا أسماه هماً كبيراً تعيشه الأمّة العربيّة التي وصفها بـ (أمَّة اقرأ) لافتاً إلى أن هذا الهم تعيشه الأمة بعامة والإنسان العراقي بخاصة.
وأضاف مبيناً: العراقي الذي عُرِفَ عنه بالقراءة والمتابعة لما يصدرُ من النتاج الفكري والعلمي والثقافي العالمي، والتفاعل مع ما يجري من حلقات ثقافيّة ونشاطات علميّة، ولكننا نلحظ الآن تراجعاً كبيراً في المستويات الثقافية للفرد العراقي وتسرَّبَ ذلك – مع شديد الأسف - إلى جامعاتنا العراقية فبدَا الطالبُ يبحثُ عن علامات النجاح فقط من دون الإفادة من كنوز العلم وجواهر المعارف فينهي دراسته وهو مفرّغ من أيِّ خزينٍ ثقافِي يساعده في شقِّ طريقه في الحياة فتلقّفته الأهواء وجعلته مشوّه الرأي لا يحملُ مساراً فكرياً واضحاً كما كان صاحب الشهادة الجامعيّة فيما سبقَ من القرن الماضي.
ثم تحدث عبد الله عن مجموعة من الأسباب التي يجد أنها وراء تردي مستوى الطالب الجامعي فقال: لعلَّ ذلك التردي يعود لأسباب كثيرة لا تقع على الطالب الجامعي وحده، بل يتقاسم ذلك الخللَ كلُّ مَن يعمل بالمنظومة التعليميَّة ومن جملة الأسباب ما يأتي:
1- انغلاق الجامعة على الطالب بتدريسه المادة العلميّة فقط، وعلى الطريقة نفسِها التي تعوّد عليها بدراسته قبل الجامعة بل قلّتِ المواد وأصبحت في أكثر الأحيان ملازم يقرأ الطالب ويمتحنُ بها، وهذه الطريقة لا تخلقُ جيلاً واعياً بما يجري ويبقى يفكّر- إذا صحَّ التعبير- داخل الصندوق أي لا يتطوّر.
2- قلّة أو انحسار السفرات العلميّة والثقافيّة والإطلاع البصري على كثيرٍ من معالم وآثار المبدعين الكبار كالإطلاع على سيرهم الثقافية وصورهم وتماثيلهم، فهذا يحفّزُ منطقة التفكير لدى الطالب الجامعي.
3- لم تستثمر الكليات - ولا سيّما الإنسانية (الآداب، التربية)- إلّا ما ندر المراكز الثقافيّة كـ (اتحاد الأدباء، نقابة الفنانين، نقابة المترجمين) وغير ذلك مما له صلة بالثقافة، وعليه يجب استضافة الشعراء والنقّاد وكتاب القصة.. وغيرهم من المعروفين بالإبداع الفني والأدبي وعقد الصلة الوثيقة بين المجتمع والجامعة واقتحام صومعة الطالب في كليّته ونقل الإبداع إلى ساحته وإشراكه في العمل الإبداعي بالتحليل والتفسير وتحبيب الثقافة وإثارة الروح الأدبية لديه وتقريبه إلى كلِّ عمل ثقافي جميل ونافع، وهي فرصة للانفتاح العقلي والتوسع خارج قيود المناهج المقررة والمادة المفروضة وتنويع الدراسة إلى الاستماع والإدراك والتأمل، وهذا التغيير بالنمط وبالأسلوب يحفّز الذهن ويجذب الطالب إلى استلهام ما يجري وما يدور حوله من معارف وتجارب ثقافيّة.
4- ومن تقصير الجامعات أنّها قلّما تعتني بالمواهب الثقافيّة وبالمبدعين من طلابها ويكون هذا عائقاً أمام التنمية الثقافيّة وإعداد الطاقات التي ترفد المشهد الثقافي للأمّة والتي تسهم في رقيّ المجتمع وسعادته.
شراكة ثقافيَّة
الشاعر عباس السلامي، قال: للجامعات دور فاعل في تنمية العقول، تشترك فيه مع المؤسسات الأخرى، والتي من شأنها مجتمعة أنْ تُسهم في تحريك عجلة التطور في البلد، لكن هذا التطور لا يتعزز دوره، ولا يمكن الحفاظ على ديمومته واستمراره بوتيرة متصاعدة إلّا بحراك ثقافي، تضطلع بتنميته كليات متخصصة في الشأن الثقافي والأدبي ككلية الآداب وفروعها الإنسانية، وذلك عبر برامج ثقافية وفعاليات أدبية، ومعارض تندرج ضمن خطة عمل واضحة وميسّرة ومدعومة من الجهات المختصّة وبالتنسيق مع المؤسسات المعنية كاتحاد الأدباء والكتاب المركز العام، وفروع الاتحاد في المحافظات، لتحقيق أهداف هذا الحراك والتي تتلخص أهميته في تنمية الشعور بالمواطنة، وروح الانتماء، والعودة لإرث الأمة من أجل الحفاظ على الهُوية الثقافية.
وأشار الى أن ما واجهناهُ من أزمات صادمة عصفت بالبلاد، تلك الأزمات التي مثلت الاختبار الأقسى الذي تعرّض له الأفراد بشكل خاص والمجتمع بكل أطيافه بشكل عام، حيث تصدعت الوحدة الوطنية، وتعرّض النسيج الاجتماعي لهزات عنيفة، لهذا صار من الضروري الاستعانة بالجامعات والمؤسسات المعنية، وكل ما من شأنه ترميم ما تصدّع، فالجامعة تضم بين جنباتها طلبة من ثقافات مختلفة، لهذا يقع على عاتقها ادارة هذا التنوع والتعامل معه بمهنية من خلال، اتاحة الفرص للتفاعل المثمر بين الثقافات عبر مناشط وفعاليات وأندية لتعزيز العلاقات السلمية بين الطلبة وتلاقح الأفكار فيما بينهم، بما يعزز الوحدة الوطنيّة، وتأصيل الهوية الثقافيّة.
وأضاف: هناك صعوبات لا شكَّ يواجهها الطلبة اليوم تتمثل في كيفية التوفيق والموازنة في الوقت والجهد ما بين تنمية الوعي الثقافي والنجاح في الدراسة الأكاديمية، فالضغوطات كثيرة وكبيرة يتعرض لها الطلبة، وأخص بالذكر طلبة الجامعات الأهلية، تلك الجامعات التي تنامت باضطراد غير محسوب، والتي شكّلت نسبة استيعاب كبيرة للطلبة الدارسين تفوق ما تستوعبه الجامعات الحكومية، فضلاً عمّا يسببه الالتزام بتكلفة الانتساب المادية من ضغوطات كبيرة على الطلبة، لهذا فمن الطبيعي أن ينشغل الطالب بكيفية تأمين تلك التكلفة حتى يتمكن من الاستمرار في دراسته، وإتمامها بالنجاح الذي يأخذ منه كل الوقت والذي لا يتأتى إلا على حساب ما يمكّنه من تنمية وعيه الثقافي.
ويعتقد أنّ طلبة اليوم ينقصهم من الثقافة الكثير لفهم ومعرفة وتقييم ثروة البلاد الثقافية وإرثها الحضاري. كما أن أغلب الجامعات ليست مشغولة بصناعة الفعل الثقافي المؤثر لصناعة أجيال، لكن هذا لا يعني عدم وجود جامعات تؤسس لهذا الفعل عبر مد جسور التواصل ما بين الطلبة وصنّاع الأدب، من خلال اقامة فعاليات للأدباء في أنديتها، ومعارض للتشكيليين، وتقبّل وتكريم ما يصدر للأدباء والفنانين من كتب وضمها لمكتباتها. وهذا الفعل لا شكَّ يترك أثراً واضحاً في المحيط الثقافي. مما يحفّز الجامعات الأخرى ويشجّعها على الحراك الثقافي خدمة للثقافة الوطنيّة.