غوستاف كايبوت.. تحوّل المواقف والأفكار

ثقافة 2024/11/27
...

 جمال العتابي

كانت الحرب الفرنسية – البروسية عام1870 أحد الأسباب الرئيسة في زيادة ثروة والد الفنان التشكيلي الفرنسي غوستاف كايبوت، المولود عام 1848، إذ سمحت الحرب بهذه الزيادة باعتباره مورّداً رئيساً لبطانيات الجيش الفرنسي ومالكاً لمصانع النسيج. هذه الثروة جعلت من كايبوت ثرياً حقاً بفضل تركة الأسرة الغنية التي أصبحت تنتمي لكبار الصناعيين.
المثير في حياة كيبوت القصيرة الذي توفي عام 1894 أنه شغف بالفن باكراً، وسخّر ثروته وطاقته لمساعدة الفنانين المحتاجين والفقراء من خلال شراء أعمالهم مؤمّناً لهم وسيلة عيش مقبولة، ووفّر لنفسه مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية، فضلاً عن ذلك تعددت اهتماماته وتنوعت، إذ كان شغوفاً بركوب القوارب، وعمل مهندساً بحرياً وبحاراً، ثم أكمل الدراسة في كلية الحقوق، ولعل فشل كومونة باريس كان الحدث الأهم في حياته الذي قاده إلى الفن فوجد عزاءه فيه، إذ كان أحد المدافعين عنها، المتماهين مع أفكارها، ترك أسلوب قمعها الوحشي جروحاً حادة لم تلتئم في
روحه.
كانت تلك الانعطافة الأولى نحو الفن في حياة كايبوت، ومع كل هذه الفصول المثيرة فيها، إلا أن أغلب الفرنسيين اكتشفوا مؤخراً أهمية هذا الفنان، تحديداً في الربع الأخير من عام 2024، إثر قرار السلطات الفرنسية عرض أعماله الفنية مؤخراً في متحف "أوروسيه" أحد أهم المتاحف  في باريس، بعد أن كان في طي النسيان، هذه السلطات كانت ترفض إرثه بوصفه مجرد ثري هاوٍ لجمع اللوحات، فتلقّف الأميركيون تلك الثروة بأثمان باهظة، وهذا ما يفسر وجود العدد الأكبر من أعماله في المتاحف الأميركية طوال القرن
العشرين.
لم تترك تجربة كايبوت أثراً مهماً في الحركة التشكيلية العالمية، أسلوباً وفكراً وتقنيات، هو ينتمي إلى المدرسة الواقعية ثم انتقل إلى الانطباعية بعد مشاركته معرض الانطباعيين عام 1877 بعد بضع لوحات تأملية، وظل يراوح بين
المدرستين.
كانت لوحته الشهيرة "كاشطو الأرضية" البداية التي نسب بسببها إلى "التيار" الاشتراكي في الفن، لم يكن هذا الاتجاه واضح المعالم بعد، لكن اللوحة أصبحت سبباً في شهرة كايبوت بالرغم من تعرّضه إلى نقد شديد وحاد من المتابعين ونقاد الفن، وتعرّض اللوحة إلى المزيد من الجدل، لأنها تمثل ثلاثة عمال عاريي الصدر يكشطون خشب أرضية إحدى غرف منزل الفنان، إلى جانبهم زجاجة نبيذ وكأس واحدة
ممتلئة به.
القراءة الأولى للوحة تشير إلى أن الفنان رسم لوحته من علوّ "زاوية مرتفعة"، في المشهد إيحاء بالتعالي والعجرفة، المضاد لصفاء التوجّه، وهي تمثل خلاصة التحول في المواقف والأفكار بسبب الانتماء الطبقي. بعيداً عن التمثلات الإنسانية في أعمال مشابهة لفنانين آخرين تتسامى فكراً ورمزاً.
هنا يكمن سبب تناولنا تجربة هذا الفنان الذي يتهم دائماً بشعوره بـ "الفوقية"، في عمل آخر له، يطلّ فيه الفنان نفسه من شرفة منزله على الشارع وهو يضع يديه في جيوب بنطاله في لحظة زهو
وكبرياء. "
بيعت هذه اللوحة في مزاد أقيم في نيويورك بأكثر من 50 مليون دولار لحساب متحف "جيتي " في لوس أنجلس"، وبعد وقت قصير من شراء اللوحة أصدرت إدارة المتحف بياناً أعربت فيه عن سعادتها لامتلاكها على ما وصفته بـ " تحفة الواقعية المدنية الحديثة في القرن التاسع عشر، معتبرة إياها أهم أعمال الفنان الانطباعي الفرنسي
غوستاف".
من جانب آخر رسم كايبوت شوارع باريس، والمارّة فيها، ورسم داخل المنازل، والطبيعة، والمقاهي، والطبيعة الصامتة، ونالت بعض أعماله اعجاب النقاد الفنيين، بل تمكن من تحقيق الشهرة في لوحته "شارع باريس في يوم ممطر" عندما عرضها لأول مرة في باريس، إذ تعد اللوحة من الأعمال الانطباعية المتقدمة في اللون والأداء. كان الفنان يمتلك إحساساً بالدقّة والحداثة، وغالباً ما كان يصور مشاهد الحياة الحضرية الفرنسية المتطورة واليومية بضربات فرشاة محسوبة ومعبّرة، نالت اعجاب المتلقي ومنحته موقعاً متميزاً في
عصره.
إن ما لحق كايبوت من تشهير واتهامات وظلم في بعض الأحيان ربما يعود إلى طبيعة عصره المفعم بالشحنات الثورية وأخلاقياتها، وفي مرحلة اتسمت بالابتكار الفني والتغيير الثقافي، وساخنة بالأحداث، تكاد بعض الاتهامات غير منطقية، ومخالفة للواقع، منها مثلاً أنه يرسم الرجال فقط، بينما تؤكد المرأة حضورها في العديد من
أعماله.
كما كان رجلاً كريماً إذ تبرع بكامل مقتنيات إلى الدولة الفرنسية، ودعم أصدقاءه من الفنانين مادياً كما أسلفنا. في شخصيته جوانب إيجابية، ومصادر طاقة للابداع، بدلاً من الاستسلام للآراء التي حاولت النيل من تجربته والتشكيك في أصالتها. شيء من ثمار هذه التجارب نما وازدهر في عصرها، وتستعيدها المعارض الفنية الآن، فنقرأ رموزها ليحاورها المتلقون كلاً بلغته الخاصة.