د. نصير جابر
تبدو مهمة بعض اللوحات أو الأعمال الفنية العميقة والمائزة والأصيلة، مشابهة تماماً لمهمة طبيب العيون الدقيقة والمعقدة، في عملية تصحيح البصر، فهي – أي هذه اللوحات- موكّل بها تصحيح رؤيتنا للوجود، وتعديل درجة وزاوية فهمنا للجمال والخير والأمل والسعادة واليأس والمستحيل، وغيرها من المفاهيم والمقولات الكبرى.
فليس من السهل أن نتعلّم ونعي ذلك كلّه عن طريق القراءة أو تجارب الحياة وحدها، من دون هذه السياحة البصريّة المهمة التي تزرع في ذواتنا ذلك الشغف الفريد الذي يجعل الحياة تُطاق، فنظل نبحث ونتقصى عمّا يُكملُ ما ينقصها ويتمّم معناها الذي نفترضه
فيها.
وفي اشتغالات حيدر عزيز عرب الفنان التشكيلي النجفي الشاب ثمّة تحريض ذوقي احترافي على التعمق والإيغال في أديم الحياة، فهو يمسك بأدواته الفنية المتكاملة إمساكاً تاماً، وينتجُ بطريقة متقنة ما يدهش ويدعو للتأمل والصمت والتعرّف. ومن ثمّ فهو قادر على صنع تصحيحات لما يمكن أن ينحرف في الرؤى والرؤيا، تصحيحات تتمّ من خلال شحن عواطفنا بوافر عظيم من الأحاسيس المرهفة وخلخلتها بزرع الشك والريبة والشغف، ليعاد ترتيبها بالطريقة الصحيحة المنطقية.
حيدر يرسم رقمياً وجوهاً مقلقة، مربكة، تضجّ بالألوان، حيث تتداخل الحارة والباردة، في حيز المخ، الرأس، الذي كان من المفترض أن يكون صافياً، لوناً واحداً أو ربما فكر واحد، يساراً أو يميناً، لكنه هنا مختلط. ألوان عشوائية تشكّل حالة إنسانية، حالة تتوالد منها الأسئلة: هل نحن هكذا الآن؟ فلو تأملنا عدد الألوان التي تنتظم في صفوف كثيرة داخل ذواتنا لأصبنا بالرعب من هذه الازدواجية، فهل العيون فعلاً تبصر أم هي مجرّد لون مخلوط؟ وهل نحن نحلم بالطريقة الصحيحة للحلم؟ ثمّ هل نجرؤ على قول الحقيقة؟ هل نحن نعي ما يدور حولنا؟.
في الرسم الرقمي حيث يجد حيدر مساحة واسعة سهلة في التحرك، نراه يضيف على تقنيات الآلة تقنيات جديدة أخرى فهو حرفي أكثر منها، حينما يلعب بنسب الوجه البشري، يجعل الفم مختلفاً والأذان ليست كما هي، هو يشوش على ما نظنه قارّاً وراسخاً حتى يقول لنا إن الرؤية تحتاج إلى بصيرة مختلفة، وإن الوجوه ليست كما تظنون، بل هي نتاج ما تحمله من رؤى تنسجم مع وعيها الحقيقي وليس الزائف.
أما المرأة التي نراها في إحدى اللوحات، مجسّدة رقمياً بشعر قصير، وخيال لعيون أو ربما علامة استفهام. بنصف ملامح ولون مهيض، لون يعطي مساحة لتوقع سبب غياب الملامح التي يهدمها حيدر ليترك لخيال المتلقي إعادة رسمها وبنائها، لينتج الوجه الذي أراده، الوجه الذي يشبهه، وجه رقمي، مثلما هو الحبّ الآن، الرقمي، فما بين حقل وحقل أو حبيبة وحبيبة لا مسافة تذكر، حيث تتلاشى المفاهيم وتصبح الخيانة فعلاً يمكن أن يمسح بضغطة زر، وربما يمكن أن نؤرشف الفرح أو لحظات الغضب برموز ويمكن أن تنتهي قصة حبّ بمجرد "حظر"!.
إنّ لجوء تشكيلي يمتلك هذا الكم من الرؤى الثاقبة والاحترافية إلى الفن الرقمي مغامرة غير محسوبة العواقب، لكنه تجاوز حدودها القلقة بنجاح ملموس، بل تجاوز ذلك نحو تأسيس وتأثيث ريادة في هذا الفن، وحاول أن يثبت "فنية" هذا الفعل، لأنّ اللوحة الرقمية يمكن أن يقال عنها إنها لوحة مع وقف التنفيذ، فالتشكيك بنسبتها كاملة للفنان كبير، لأنّ نسبة مشاركته فيها محدودة بينما نسبة التكنولوجيا تبدو أكبر من وجهة نظر بعضهم، لكن الحقيقة أن الأداة الرقمية قد توفر سهولة في التنفيذ وتطرح خيارات أوسع، لكنها تبقى مجرّد مواد خام، وإن الدور الأول والأخير للفنان في تطويعها لبث ما يريده فيها.
حيدر عرب، يحاول توجيهنا إلى أن الوجوه التي يتقن هو صنعها رقمياً هي بالأصل منتجات "رقمية" لو توخينا الدقة والحقيقة، فرؤوسنا الآن نتاج ذلك الوميض الرقمي الهائل الذي يمرّ أمامها من مقاطع فيديو وأخبار متلاحقة ومتناقضة وسريعة وفوتوشوب وتزوير ودمار وخراب و.. حتى نكاد نتشابه في كلّ شيء، مبرمجين بتأثير عوامل قاهرة، لذلك تبدو الوجوه بلا ملامح، هي مطموسة بلا علامات ولا شواهد.
حيدر عزيز عرب تخرج في قسم التصميم في معهد الفنون الجميلة، ثم أكمل دراسته في قسم التشكيل في جامعة بابل، وهو الآن طالب دكتوراه، وكان معرضه الشخصي الأول عام 2012 تحت عنوان "بديات حداثوية"، بينما كان معرضه الخامس عام 2017 تحت عنوان "مخلفات حرب". شارك أيضاً في العديد من المعارض الدولية ونال جوائز
مهمة.
وأخيراً من المهم أن نقول إنه يشتغل على الكثير من الخامات، ففضلاً عن الفن الرقمي الذي يؤثره، فهناك الزيت والسيراميك، وهو في كل تلك التجليات الفنية العالية يقدم لنا فنّاً جديراً بالتأمل والقراءة
والتحليل.