فيروز.. امتداد الأزمنة والتمسك بالأمكنة

ثقافة 2024/11/28
...

 د. نادية هناوي

شكلت أغاني السيدة فيروز ظاهرة فنية فريدة في مضمار الموسيقى العربية، وأسباب التفرد كثيرة كما أن تفسيرات نشوء هذه الظاهرة متعددة، منها طراز الغناء الفيروزي الخاص الذي يجعل امتدادات تذوقه واسعة، ومنها جيلية فيروز المستمرة، فلا يؤثر فيها تبدل الزمان ولا تغاير المكان. ومن التفسيرات أيضا قيام أغانيها على فكرة التواؤم الفني مع التنافر الخفي بمعنى أن البساطة والوضوح والرقة والتلقائية لا تحول دون الإيحاء المتعمق في الظواهر والتعاطي الواقعي مع القضايا المصيرية.

وتظل هناك تفسيرات أخرى تحتملها هذه الظاهرة أيضا، منها جمعها الباهر بين التراث الشعري بنوعيه الفصيح والشعبي وبين الموسيقى التراثية العربية والغربية الكلاسيكية والعصرية كالجاز والكونشرتو والبوسنوفا.

وهذه اللامألوفية في الجمع بين الشعر والموسيقي هي التي حققت للفيروز مناخات وهيأت لها أجواء، جعلتها تعبر عن روح العصر وتطلعات الإنسان برؤى جمالية بعيدة عن التعقيد المفرط أو البساطة المهلهلة، مخالفة بذلك ما كان سائداً على الساحة الغنائية في الاربعينيات والخمسينيات من هيمنة الأغنية الكلاسيكية الطويلة والنخبوية السلطنية. وما زالت أغاني فيروز إلى اليوم تخالف السائد في الأغنية العربية الراهنة بوسائل معينة. وهذا ما يجعلها تضمن لنفسها أن تكون حداثية في تقليديتها وتقليدية في حداثيتها.

وما من شك في أن نجاح الأغنية الفيروزية هو اعتدال نهجها، فعاطفتها في كفة، تضاهيها في المقدار وفي الاستمرار كفة الإحساس بالمسؤولية الفنية سواء على مستوى الأغراض أو على مستوى التطلعات. ولن نغالي إذا قلنا إن الأغنية الفيروزية استطاعت تحقيق عالميتها؛ فلقد جابت البلدان وطرقت ميادين إنسانية رومانسية وواقعية وسيكولوجية وبعثت برسائلها الجمالية إلى الإنسانية جمعاء بقوة وشفافية من دون أن تتحدد قوتها بعنصر من عناصر هذه الأغنية، إنما هو مجموع عناصرها التي تتعاضد فتجعل مساحة التأثير عالمية تغطي مختلف الأصعدة الاجتماعية والنفسية إلى جانب السياقات الفنية التجريبية.

وإذا كانت أغاني فيروز تتقارب مع التراث الغنائي للشعوب الأخرى، فإنها أيضا محافظة على استلهام التراث الغنائي العربي. وما بين التقارب والمحافظة تتأكد توازنية هذه الأغنية وعالميتها كمدرسة فنية أرست تقاليدها بصورة صلدة يمكن البناء عليها وتوسيعها. 

وقد تشترك هذه المدرسة بقدر أو بآخر في بعض تقاليدها مع تقاليد المدارس الفنية الأخرى التي عرفتها الساحة الغنائية العربية، بيد أن هناك تقليداً اختصت به المدرسة الفيروزية فتمايزت أغانيها بشكل واضح، وأعني به مزج التراث بالحداثة شعراً وموسيقى وبرؤى فنية فيها يغدو للغناء دوره في تغيير الواقع وإصلاحه. 

ولقد ظلت الأغنية الفيروزية مداومة بقوة ومركزية على هذا التقليد حتى غدا أس التقاليد كلها. وعادة ما نجد تطبيقاته بارزة ومتجسدة بعمق في الأغاني التي فيها الأندلس حاضرة كوطن كان ذات يوم زاهياً واختفى في طرفة عين أو تستلهمها كموشحات شعرية وموسيقية مشهورة وخالدة أو تستنهض تاريخها كواقع يومي بأزياء وممارسات تتم مسرحتها في شكل وصلات احتفالية وكرنفالات ميلودرامية لاسيما في مهرجانات بعلبك منتصف الستينيات التي فيها شهدت الأغنية الفيروزية انعطافاً فنياً وإبداعياً نحو التراث الأندلسي كماض جميل لا بد من تذكره وعدم نسيانه.

وقد رأت الناقدة خالدة سعيد أن في الفنّ الفيروزي الرحباني يوتوبيا مجتمع فاضل ورؤية مثالية خرجت فيه هذه الأغنية من "سجل الموضوعات الغنائية العربية.. من حصرية شكوى البعاد وشوق الوصال وتداخلت بالمدرسة الشعرية الرومنطيقية" بيد أننا نرى أن الفنّ الفيروزي لا يتميز بهذا فقط بل هو في انفتاحه الثقافي المتمثل في مزاوجة الأغنية الفيروزية بين التراث الشعري والموسيقي العربي والأجنبي وبين حداثة الموسيقى والقصيدة العصرية على عكس بعض الحداثات العربية في الشعر التي انغلقت على نفسها بتقليدها موضات غربية.

وإذا كانت الأغاني ذات النفس الأندلسي مقوماً مهماً من مقومات هذا التقليد، فإن من المهم أن نعرف كيف أمكن للأندلس شعراً وغناءً أن تمنح الأغنية الفيروزية خاصية هذا الجمع بين التراث بفصاحته وكلاسيكية رسوخه الأصيل وبين الحداثة المستقدمة من حواضن غير عربية والمستجدة في نشوئها الطارئ والسريع ؟ 

تحتم الإجابة عن هذا التساؤل أن نقف عند أهم المؤثرات الأندلسية التي أكسبت الأغنية الفيروزية هذا التقليد، وفيما يأتي مؤثران مهمان ساهما في رسوخ تقليد مزج القديم بالحديث، والكلاسيكي بالرومانسي، والشعري بالموسيقي: أولهما الغناء وثانيهما الموشح.

ولقد أفادت فيروز من الموشح في تعزيز الممازجة بين التراث والحداثة، ووجّهت موهبتها وجهة فعالة خلصتها من الذاتية والانغلاقية، ومكنتها من أن تبني على تراكمات الجهد الإنساني نظاماً له معنى وقيمة يلائم الظواهر والظروف. والموشح ما ابتكر يومذاك إلا من أجل الأغنية، يقول الدكتور جودة الركابي: "لا مرية في أن لانتشار الغناء أثراً كبيراً في ظهور الموشح وهو الذي حدد له وزنه وحرره من قيود الشعر العربي". 

وكان لإلمام الرحبانة بفن الموشح دور مهم في تعزيز هذه الممازجة بين الفصيح الكلاسيكي والشعبي الرومانسي داخل الأغنية الفيروزية. 

ولو عدنا إلى القرنين الثالث والرابع الهجريين اللذين فيهما ظهر فن الموشح لوجدنا أن دوره كان كبيرا في جعل الشعر الفصيح غير مستهجن ولا ممجوج في آذان الجمهور الذي قابل استعمال "الخرجة" التي بها يختم قالب الموشح بالاحترام كما تقبّل التعدد في القوافي بسبب ما يصنعه من جو عام وثقافي، تغيب فيه نخبوية القصيدة الفصيحة 

وصلادتها. 

وساعد في إحياء الموشح الأندلسي صوت فيروز الخلاب والصداح وما فيه من إمكانيات نغمية تبلغ من القلوب كل مبلغ. هكذا استنهضت هذه الأغنية فن الموشح وأعادت الحياة له. ولقد عدّ فؤاد رجائي الموشحات عماد الغناء العربي الأصيل فهي كنزنا الموسيقي الخالد والمرجع الأول للاقتباس والمماثلة. وعلل سبب اختراع الموشحات بزرياب الذي قدم إلى الأندلس في عهد عبد الرحمن الأوسط هارباً من بغداد وأسس فيها أول معهد موسيقي. 

واليوم تتضح قيمة الموشح التاريخية والفنية في تطوير الموسيقى العربية، وفي جعل الشعر العربي موصلا ًلا مفصلاً، ومن ثم تقبّلت الذائقة الشعرية التلاعب بالأوزان أو شطرها واستعمال المهمل منها. وكان لثقافة الرحابنة دور مهم في جعل الغناء الفيروزي للموشحات مستلهِماً التراث الأندلسي وممتزجا بالشعر المشرقي القديم والحديث. وهذا ما ساعد في تقريب الشعر الكلاسيكي من أذهان عوام الناس، وأصبحت للموشح صورة حداثية بهارمونية هذا الانسجام بين الفصيح الرسمي والعامي 

الشعبي.

وصارت الأغاني التي تستلهم فن الموشح متقدمة ومتسعة على حساب الأغاني التي استلهمت الفلكلور أو اللهجة البدوية أو التي موضوعها المدينة أو في الضيعة. وتم تحميل الأغنية الفيروزية أبعاداً وطنيةً وقوميةً توقظ في النفس الحنين إلى زمان ومكان ضاعا فجأة، وتحذِّر من مغبة الغفلة كي لا يُستلب منا المزيد من أراضينا في إشارة إلى فلسطين واحتلال الصهاينة لأراضيها. 

وجدير بالذكر أن القضية الفلسطينية حاضرة في كثير من الأغاني الفيروزية التي فيها تتكرر مفردة "العودة" كأغنية "سنرجع يوماً إلى حيّنا، وجسر العودة يا جسر الأحزان، سيف فليشهر.. نعيد إلى الدارِ الدارَ" ثم توّجت فيروز ذلك كله بأغنيتيها الشهيرتين بعد نكسة حزيران 1967"أجراس العودة فلتقرع، وزهرة المدائن".

من هنا نفهم لمَ غنّت فيروز لكبار الشعراء القدماء والمعاصرين الذين اهتموا بالأندلس كحاضرة فقدت ألقها وكأرض ضاعت حضارتها الإسلامية. وندرك مدى خشيتها من أن تكون فلسطين اندلسا ثانية نبكي عليها إلى الأبد. ولقد توزعت أغانيها الموشحة بين نستولوجيا الحنين ورومانسية الوجد الشفيف كما في موشح "جادك الغيث إذا الغيـث همـى" للسان الدين بن الخطيب، وفيه تتغنى فيروز بزمان ولّى كانت فيه الأندلس عامرة ولها السيادة. أما حلم بالوصل ولذة الاجتماع فيتعذر تحققهما مع فعل التشتت وظلم الدهر، وقد تحول الوصل إلى هجر والفراق واللذة إلى شوق والاحتراق والاجتماع إلى تباعد وشتات.

ولعل لسان الدين بن الخطيب في قصيدته هذه أراد أن يعبّر عن مشاعر استشرافية تشي بأن الأندلس على وشك أن تضيع للأبد، فبكى متنبئاً بهذا المآل التراجيدي مصوراً الأندلس امرأة. وعلى الرغم من طول عهده بها، فإنه يشعر أن هذا العهد يتلاشى وكأنه لم يكن. 

وقد يعتقد بعض الدارسين أنّ الموشحات ذات دلالات رومانسية وأنها تُكتب لتعبر عن الوجد والهيام، لكن هذا الوجد والهيام مجرد دلالة أولى تخفي خلفها دلالات واقعية محمّلة بأبعاد انتمائية لوطن يوشك أن يضيع للأبد، وهو ما عبّر عنه ابن زهر في موشحه "ما للمولّه" وغنت فيروز مقطعا، فيه يتساءل الشاعر عن زمانٍ ومكانٍ فُقدا للأبد، مكرراً الاستفهام بـ "هل" كتأكيد لصعوبة أو استحالة العودة أو الرجوع متخذاً من الطبيعة معادلاً موضوعياً للأندلس ومطعّماً الحنين بالغزل. وصورة الغزال هي أكثر الصور الغزلية تكراراً عند الشعراء الأندلسيين. والقصد منها ليس ذاتياً وجدانياً إنما هو 

رمزي.

وهو ما نجده في موشح ابن زهر "أيُّها الساقي إِلَيكَ المُشتَكى" وفيه ينادي على الزمان الذي ولى وانقضى، شاكياً بلوعة من طول الفراق، متبرماً من لوعة الغربة وهو يكابد الصبر عليها، مبتدئاً بغزل رقيق يخاطب فيه محبوبته بضمير المذكر، محاولاً التجمل بالصبر على البعاد الذي هو ضياع ولذلك أكثر الشاعر من مفردات "البين والعشى والعمى والبعد والبكى والصبر والشكوى واليأس".

والأثر الذي تركه الموشح في الأغنية الفيروزية اليوم هو كذاك الأثر الذي تركه بالأمس في الأغاني الاسبانية التي ألفها شعراء التروبادور. ولقد أعطت الأغنية الفيروزية للموشح الأندلسي حيوية وعملت على اشاعته بين الجمهور العربي بإلماحات وجدانية تندب الواقع من جانب وتوثق صلته بالتراث العربي من جانب آخر. ومن ثم يغدو وصف المدرسة الفيروزية بأنها مثالية أو رومانسية غير منصف ولا دال؛ فلقد واكبت هذه المدرسة الواقع وجسدت مخاضات الشعب العربي ووقفت بقوة إلى جانب قضاياه وشاركته تحدياته المصيرية لاسيما قضية فلسطين. أما ربط هذه المدرسة بمشروع رحبانيّ أو زياديّ، فلا يُظهر الحقيقة كلها لأن هذه المدرسة هي بمجموع عناصرها تنوعت تقاليدها التي تشكلت أو بُنيت على أساس واحد لا ثاني له هو فرادة صوت فيروز وكاريزما شخصيتها ودرامية حياتها بدءاً من اكتشافها من قبل الملحن حليم الرومي. هذا الاكتشاف الذي جاء متزامناً مع ضرورات مرحلية تاريخية كانت قد وفرت لفيروز الانتشار على المستويات الاجتماعية والسياسية 

والفنية.

إن اللامألوفية في أغاني فيروز هي التي جعلتها تبسط سيادتها وتؤكد تميزها وأيضا طموحها المنقطع النظير نحو التجديد بسمو ما هو تراثي ورفعة ما هو فصيح أولاً، وبعمومية ما هو شعبي وبساطته آخراً. وها هي تستمر مؤثرة تاريخياً ومتأثرة إبداعياً بجدية ليس فيها تصنع وبتلقائية ليس فيها أي تكلف. ومهما تغيرت صور التحديث النغمي وتنوعت أشكاله، فإن أغاني فيروز تظل قوية وحاضرة بما عندها من تقاليد وفي مقدمتها تقليد المزج بين التراث 

والحداثة.