محمود هدايت
كيف يلتقي الشعرُ بالسينما والسرد؟، يبدو لي أنّ تحقّق ذلك مرهون بتوفّر خيالات مفتوحة على سياحة فكريّة في عالم اللغة والصورة، تصحبنا معها إلى نزهات لا مرئيَّة، نفكّ بوساطتها الشيفرة الوجوديَّةَ لحركتنا الداخلية في مدن الأحلام الكبرى التي شيّدت كجزر سعادة يقطنها الإنسان حسيّاً، ويعدّ أمين صالح أحد مؤسّسي هذه الجزر، إذ تكشف لنا سيرته الإبداعيَّة عن ثراء فكريّ في مجالات الأدب والفنونِ، فقد ترجم الكثير من الشعراء والفلاسفة، لكن تبقى السينما هي تلويحته الدائمة التي يُحييّ بها الوجود، الأمر الذي جعل من الكاميرا بوصلته الإنسانيةَ تجاهَ الآخر القصيّ، وتشير كتاباته المتعددة والمتنوعة أيضاً إلى عمق ثقته بالصورة التي من دونها لا وجود لعين أمين صالح، لأنّ عين الفنان تكتسب حيويتها من اللا مرئيّ.
تتميز كتاباتُ أمين صالح برحابتها اللغويَّة المستمدّة من شعريَّة تفكيره، ما مكَّنه من خلق نصّ موازٍ مفتوح على سنده البصريّ برصد لما تخفيه الشاشة أو تحاول الذهاب به إلى أعماق ما لا يُرصد إلا ببصيرة مهووسة باللعب مع المنامات الفرجيليّة، إذن، كتابة أمين صالح تنطلق من فهم وجدانيّ - أنطولوجيّ لفنّ السينما التي هي طعامه الوجوديّ المفضل، إنّه يكتب بشغفٍ عالٍ وانسحار بمنجزات الكاميرا: عين الأساطير الشاهقة، فتبدو مؤلفاته وكأنّها أكواريوم فكريّ يعرض لنا سيرة مشاغل تلك الأعماق الحسيَّة التي لا يمكن لنا أن نستكنه عوالمها دونما الوصول إلى ضرورة السينما كحياة.
منذُ ما يقارب أربعة عقود وحياة أمين صالح بحر سينمائيّ لم تفتر همة أمواجه في يومٍ ما، حيث استطاع أن يؤسّس إلى خط نقديّ في الثقافة العربيّة، من خلال تعريفه بالكثير من المخرجين، وتناوله لأفلام لم يسبق أن كُتب عنها، كذا ترجماته المهمة والمتنوعة، واللافت في تجربته أنّ ليس ثمّةَ فارق بين ترجماته وكتابته حيث اللغة المتفجّرة هي من تُدير دفةَ الحضور الإبداعيّ، بمعنى أنّه يتعامل مع الترجمة كحاجة فكرية، ولم يخضع يوماً لثنائية السيد العبد، يعني أنّه يُترجم المستحيل الفنيّ بمستحيل آخر، وبعبارة أخرى: أنّه منشغل بكتابة الأثر، وليس كما في كتابات مجايليه من نقاد الفنّ السابع، أولئك المنشغلونَ بتحويل الفيلم إلى حكاية بصريّة دونما تفتيش في الحقائب الفكريّة للإخراج، الأمر الذي يعني أنّ كتابةَ أمين صالح هي نصوص موازية وليست تعاليق صحافيّة، إنّها كتابة تقشير للصورة بالفكر المفتوح على انصهار صريح بعالم السينما، شغف بعيد تمتدّ حدوده إلى حيث تجد العين لقيتها البصريّةَ، وتجلّى ذلك بوضوح في كتابته عن عباقرة الصورة السينمائية أمثال عباس كيارستمي، وجان لوك غودار، وأندره تاركوفسكي، وآخرين ممّن تعاملوا مع الفيلم كحاجة وجوديّة، أو كتنافذ شعريّ مع الآخر، وفي اعتقادي أنّ تحقّق ذلك مقرون بإمكانية الفنّ على الانفتاح على الإيقاع الحسيّ للوجود.
في الرواية كما في السينما، تتعدّد الخيالات وتتنوّع في عالم أمين صالح، إذ تتدامج الأجناس مع بعضها بعضا في كتابة تُنشد انفتاحَها الرهيف على البُعد الإنسانيّ الراصد لحاجة الوجود إلى حسّ فنيّ غير مؤطّر بفكرة واحدة، وليس خاضعاً لمقاسات أيديولوجية، ذلك لأنّه يرى في الفنِّ أصالةَ الرغبة المنشغلة بتنشيط جانب الشغف في الإنسان، وتحميس الروح على تمتين علاقتها بكلّ ما هو رغبيّ. كتابة يشتدّ شبقها دونما إعلان عن ذلك، بيد أنّنا نلمسه في سعادة الكتابة نفسها في تفجّرها على يد كاتب فنان لا يهمّه من الفنّ سوى أصالة أثره في الوجود، ولا يشغله سوى توطيد علاقته بالحياة كتجربة شعريّة ينبغي على الفنان أن يعيشها.
وبتحصيل الحاصل فإنّ الشعر يبقى هو البوصلة لكلّ ما سعى أمين صالح إلى إنجازه، فدونما ذكر لأثره الشعريّ أرى أنّ ثمّةَ نقصاناً جليّاً في سيرته الإبداعيَّة، الأمر الذي يعني أنّه أقبل على الفنون الأخرى بشهية شعريّة وسمت تجربته بمباهج اللا مرئيّ، تلك التي لا يمكن الفوز بها إلا بتوفر روح بارعة في الاحتفاء بالشيفرة السريَّة للمشاعر كما في سينما آنتونيوني، أو في لوحات سيزان الفيّاضة بألوان الدهشة الكبرى. وفي الوقت نفسه أجده سرياليّاً بلا تعاليم مدرسيَّة، وصوفيّاً خارج القوالب الجاهزة المتعارف عليها للمتصوّفة. وبالطبع، لقد استطاع بمجهود كبير أن يجمع كلّ هذه الخصال الجماليّة والفكريّة دونما أدنى ادّعاءٍ.