محمد صابر عبيد
سؤال الـ "أنا" هو السؤال الأكثر خطورة في معرفة الذات وإدراك كنهها وخطورة وجودها في الحياة، سؤال يلح على الذات في مناسبات كثيرة تحتاج قدراً من التنوير والتطلع والرؤية في هذا المجال، وعلى الرغم من أن السؤال التاريخيّ المطروح منذ أزمنة فلسفيّة عتيدة في قدمها وعتاقتها "من أنا؟" ظل عالقاً وإشكاليّاً في ذاكرة الإنسانيّة حتى يومنا هذا، إلا أن علاقة الـ "أنا" بـ "الآخر" – تحدياً وتضاهياً وتفاعلا وإنتاجاً – بقيت عنواناً لعديد من المعارف البشرية المركزية، تسعى فيها إلى فحص جوهر الإشكاليّة البشرية القائمة أساساً على حساسيّة هذه الثنائيّة المعقدة في نموذجها الحضاري الأصيل.
الوجود الأوّل هو وجود ثنائيّ إشكاليٌّ يحتفي بالذكورةِ مقابل الأنوثةِ، فمن هو منهما الـ "أنا" ومن هو "الآخر" في هذا السياق، مع أنّهما في الأصلِ كانا "أنا" واحدةً أفرزتْ "أنا ذكوريّة مركزيّة" خرجَ منها "آخر أنثويّ ثانويّ" فنشأ الحوار/ الصراعُ بين الأنا والآخر منذ تلك اللحظةِ على شفا التفاحّةِ المُحرّمةِ، وتمخّضت الإشكاليّةُ فيما بعد عن مجموعةِ احتمالاتٍ يمكنُ مقاربتُها على هذا النحو: الاحتمالُ الأوّلُ "أنا ذكوريّةٌ مقابلُ آخرَ أنثويّ"، والثاني "أنا أنثويّة مقابل آخر ذكوريّ"، والثالثُ "أنا ذكوريّة مقابل آخر ذكوريّ"، والرابعُ "أنا أنثويّة مقابل آخر أنثويّ"، فصاحبُ الصوتِ الأوّلِ هو الـ "أنا" والمُصغي للصوتِ هو الـ "آخر"، والمسافة بين "أنا" و "آخر" على هذا النحو هي التي تحدّدُ طبيعةَ إشكاليّةِ العلاقةِ.
الأنا هي دائماً تمثّل في تكوينها المفهوميّ ظاهرةً مركزيّةً متمحورةً على ذاتِها بقوّةٍ أنانيّةٍ بارزةٍ حين تنظرً إلى أنويّتها بنرجسيّة تجعلُ منها أكثريّةً طاغيةً، في مقابل أقليّةِ الآخرِ التي تخضعُ لسلطةِ الأنا "بوصفها سلطةَ الأبِ الراعي والمهيمن والطاغي" وهي تمارسُ دورَ القيادةِ وفرضِ الحضورِ "الأكثريّ"على استجابة الآخر "الأقلّيّ"، وإذا كانت الأنا واحدةً متمركزةً حول ذاتِها بلا تعدّديّةٍ فإنّ الآخرَ متعدّدٌ بحكم زمنيّتِهِ ومكانيّتهِ، فثّمةَ آخرُ قريبٌ وآخرُ بعيدٌ، آخرُ حاضرٌ وآخرُ غائبٌ، آخرُ مرئيٌّ وآخرُ متخيّلٌ، آخرُ ماديٌّ وآخرُ معنويٌّ، وثنائيّاتٌ لا حصرَ لها في هذا المدى تجعلُ من الآخرِ في المنظورِ النظريِّ أمام شاشةِ الرؤيةِ أكثرَ مرونةً وديناميّةً من الأنا المركزيّةِ، وبهذا تكونُ حاجةُ الأنا للآخرِ كبيرة وحاسمة ومتطوّرة ولا تقفُ عند حدٍّ على نحو يجعل الأنا من دون الآخر تمثالاً آيلاً للسقوطِ والمحوِ والتفكّكِ.
ما يفصلُ بين الأنا والآخر في نظرِ طرفٍ ثالث مُحايد هو الحقيقة، فكيف يرى الأنا الآخر من وجهة نظر الحقيقة؟ وكيف يرى الآخرُ الأنا من وجهة النظر نفسها؟ لا شكَّ في أنَّ بؤرةَ الحقيقة هي الكاشف الجوهريّ الذي يفصل بين طرفي المعادلة، إذ حين تعتقد الأنا أنّها تحتكر الحقيقةَ فلا معنى عندها لوجود الآخر لأنّه سيكون هامشيّاً لا قيمةَ له، والشيء نفسه يُقال حين يتولّد اعتقاد مشابه في منطقة الآخر على نحو يُلغي أهميّة حضورِ الأنا، فالسعي نحو امتلاك الحقيقة هو العلامة الأكثر خطورة في تمظهر العلاقة السلبيّة الشائكة بين الأنا والآخر.
هل يمكنُ أن يتحقّق نوع من الاتحاد المصيريّ النهائيّ الحاسم بين أنا وآخر في نموذجٍ مشتركٍ ليكونا شيئاً واحداً على مستوى الرؤيةِ والتفكيرِ والقرارِ والممارسةِ والفعلِ، إنّه سؤالٌ نظريٌّ يقترحُ حلّاً موضوعيّاً لإنهاء حالةِ الصراعِ القائمِ بين منطقةِ الأنا ومنطقةِ الآخرِ، مع أنّ إنهاءَ هذه الحالة الصراعيّةِ الأزليّةِ على الصعيدِ النظريِّ سيسهمُ في إلغاءِ الثنائيّة الأزليّةِ بين المنطقتينِ، لينشأَ خللٌ جديدٌ في بناءِ منظومةِ العالمِ يحتاجُ إلى معالجةٍ في سياقِ جدليٍّ يبحثُ من نقطةِ شروعٍ ابتدائيّةٍ عن أنا وآخر، يتجاوزان معاً بؤرةَ الخللِ ويبحثانِ عن معادلةٍ تعيدُ إنتاجَ المعادلةِ الأولى في حراكٍ حيويٍّ مختلفٍ.
إنّ المعادلةَ التي تقاربُ علاقة الأنا بالآخرِ هي معادلةٌ غايةٌ في التوزانِ والتفاعلِ الأصيلِ المُنتِجِ، فقبولُكَ للآخرِ حين تكونُ في موقعِ الأنا يضمنُ قبولَكَ لديهِ، فالأنا في جهةِ الشرقِ هي آخرُ في جهةِ الغربِ مثلما الأنا في جهةِ الشمالِ هي آخرُ في جهةِ الجنوبِ، والعكسُ بالعكسِ، في ظلّ فعاليّةٍ جدليّةٍ متبادَلةٍ لا تتوقّفُ عن إنتاجِ المتضادّاتِ لأجلِ حياةٍ تؤولُ إلى توقّفٍ ومحوٍ ويباسٍ وظلامٍ دامسٍ لا تعيشُ من دونِهِا.
الثقافةُ عنصرٌ أصيلٌ يدفعُ باتجاهِ قبولِ الآخرِ واستقطابهِ وتأمينِ حريّتِهِ بشتّى الطرق ولا يحرّضُ على إلغائهِ، هو دائماً صديقٌ ممكنٌ يساعد الأنا على أن تكونَ في أعلى درجاتِ تجلّيها وإنتاجِها وصيرورتِها، ولا يسعُ الثقافة مطلقاً أن تنهضَ بالأنا من غير الآخر حيثُ لا تسمحُ آليّاتها ومكوّناتها وتفاصيلها بهذا الانفصالِ، هما شريكانِ متضادّانِ في صوغِ نظريّةِ الثقافةِ ودعم حضورها في الميدانِ الفعليّ للحياةِ والأشياءِ بمختلفِ مسمّياتِها، وكلّما حصلَ التفاعلُ والتداخلُ والتمازجُ على أشدّهِ انعكسَ إيجابيّاً على تطوّرِ الفعلِ الثقافيِّ وديمومتهِ.
العلاقةُ المثاليّةُ الديمقراطيّةُ الصحيحةُ بين الأنا والآخر تُنتِجُ حتماً شكلاً مهماً من أشكالِ التوازنِ القائمِ على تفاعلِ الوعي بين الجناحينِ، إذ إنّ مُعامِلَ الوعي هو المعيارُ الحاسمُ الأكثرُ تجلّياً في تنظيم هذه العلاقة ورفدها بكلّ ما تحتاجُ كي تكونَ في أوجِ جمالِ صورتِها وعطائِها، ولا سبيلَ إلى نجاحِ الأنا بلا آخر أو نجاح الآخر بلا أنا، كلاهما صوتٌ وكلاهما صدى في آنٍ، يجتمعان ويفترقان ثمّ يجتمعان في دورةِ حياةٍ تتسلّحُ بالاختلافِ لأجلِ الائتلاف، وتتحرّى الصراعَ لأجلِ الالتئامِ، وتعاينُ الفِرقةَ لأجلِ التوحّدِ والاجتماعِ.
صلاح العالم أو فناؤه يتوقّف على القبول المتبادَل بين الأنا والآخر بوصفهما الطرفين الأساسين في بناء العالم وتشييد معالمه الرئيسة، إذ لا يستطيعُ محورُ الأنا وحدَهُ الإسهامَ في صلاح العالم في حين يتمكّن من تهديمه وفنائه بسهولةٍ، ويستطيعُ محورُ الآخر أن يقومَ بالدور الهدّامِ نفسه حين يكون وحيداً ومتفرّداً تفرّداً أنانيّاً بالتصرّفِ الحرِّ، لكنّه ليس بوسعه بلوغ مرحلة بناء العالم من دون تصالح الطرفين "الأنا والآخر" في استراتيجيّةِ عملٍ تشاركيٍّ حقيقيٍّ يقومُ على الثقة المتبادلةِ والاحترام المتبادلِ، وفي سياق الخرابِ الذي يحصلُ للإنسانيّة في معظم مراحلها تتأكّدُ حقيقةُ أنَّ الحروبَ سببها إلغاء الأنا للآخر، بعكسِ الحضارةِ القائمةِ على قبول الآخرِ في احترام أفكاره والسعي إلى توفير الفرصة له للمشاركة الأصيلة في إنتاج الحضارة.