عركة تكاتك

الصفحة الاخيرة 2024/12/01
...

محمد غازي الأخرس

إذن، هو قلبي الذي لا يتحمل مشاهد انسحاق البشر، ولاسيما الفقراء. قلبي الذي يعتصر ألماً لرؤية مجنون، فكيف بما رأيته قبل يومين وأنا في طريق العودة من الدوام؛ كنت قد أغلقت نوافذ السيارة وغرقت مع أغنية"تحاسبني عله الأيام ويلي.. أيام الهنا الحلوه"، لرائد التلحين العراقي عباس جميل. وبينما صاحبكم مسحور بالأداء، إذا بمشهد زحام صغير يطالعني عن بعد. أمعنت النظر، فرأيت شابين يتضاربان، وهناك آخرون يحاول ن فك اشتباكهما. كانا يتعاركان وكأنهما قطان مستفزان، ولاحظت قرّبهما تكتكين يبدو أنهما قد اصطدما ببعضهما. ببساطة، الشابان سائقان تصادما في زحمة الشارع. يحدث الأمر يومياً، قد يتطور الأمر إلى عراك بالأيدي، أو يكتفون بالتهديد والوعيد، ثم ينفض المشهد ويمضي كلّ إلى ضيمه في معركة الحياة. حين رأيت الشابين تخيلت أن يكون أحدهما ابني، بل خيل لي أن أحدهما يشبه ابني حسوني فعلاً، بمثل نحوله ووسامته، فما الذي اضطره ليعمل على تكتك ويدخل في صراع من أجل البقاء؟ هل ثمة غير الفقر والضيم؟ هل هناك غير المكرودية، التي كتبت على جباهنا "من قالوا بلى"؟ نعم، هم أهل التكاتك الصغار، المنتشرون في مناطق شرق القناة، المكاريد الذين ننتهرهم يومياً ونعدهم المسؤولين عن خراب الشارع. هم كذلك فعلاً، لكنهم ما كانوا ليركنوا إلى التكاتك لو لم تضطرهم الظروف. هل كانوا ليرضوا لأنفسهم هذه المهنة لو كان وضعهم المادي جيداً؟ كلا طبعا، إنهم مضطرون وضحايا لوضع اجتماعي واقتصادي قاس. ما فرقهم عن فتيان دول الجوار مثلاً؟ أي والله، كنت في مزاج منتعش بأغنية عباس جميل، ثم تنغصت بمشهد العراك، واضطررت لإطفاء الأغنية وفتح نوافذ السيارة، أغنية الشارع أسدلت الستارة على أغنيتي، و"تحاسبني على الأيام ويلي… أيام الهنا الحلوه"!
كلا، بل حاسبني على عركة التكاتك وربك الساتر!