ترجمة: جودت جالي
إن التقديم في هذا المجلد التاريخي الرائع "دونالد داك"، يتخذ بعد صفحة العنوان شكل صورة بحجمها لغلاف عدد من مجلة "ميكي ماوس" صدر في تموز عام 1936، ثمن النسخة كان آنذاك عشرة سنتات.
"دونالد داك" الأطول من شريكه النجم الأكثر شهرة "ميكي ماوس"، كان يرتدي في الصورة ملابس المناسبات الرسمية السود، قبعة عالية وسترة ذات الذيل، وينظر بفخر إلى "البوستر" الملطخ بالطين والمكتوب عليه "دونالد داك رئيسا".
يخفي ميكي الواقف إلى جواره خلف ظهره حفنة طين. كان "ميكي ماوس" تجسيد عبارة "قرن الإنسان العادي"، الرفيق الأصغر، الذي ينجو من كل الصعوبات، أما "دونالد" فكان شيئاً مختلفاً، قائد المجموعة الهوجاء. إن موقع المعجبين "بميكي ماوس" يحلل شخصية "دونالد" قائلا :" لقد تم رسم دونالد بوصفه مغرورا متباهيا، بشخصية طائشة صبيانية. إلى جانب خطابه شبه الغامض فإن السمة الأكثر هيمنة فيه هي مزاجه الفظ، الذي يتجلى في الاندفاعات العنيفة ونوبات البطبطة والشكوى الصارخة. إن الكثير من غضب دونالد يتأتى من حظه السيئ بشكل استثنائي، بالرغم من أن سوء حظه ينتج عن عجرفته وطمعه". ربما من الضروري القول إن هذه الكلمات كانت مكتوبة منذ زمن طويل قبل الانتخابات الأخيرة، فقد كان دونالد نتاجا للكساد العظيم. لاحظ ناقد أميركي في الثلاثينيات قائلا:" نذهب ذات ليلة الى السينما ويظهر لنا ذكر بط على الشاشة ويفعل كل شيء أردنا نحن فعله. إنه يستاء من الحياة ويقول ذلك، يستاء من السلطة ويرفض أن يسلم بخنوع، يثور، ويندفع".
إن كتاب "دونالد داك" هو الكتاب الأكثر جنونا الذي قرأته السنة، وله رسالة موجهة الينا تقول:" النجاح يولد نجاحات، كما يقولون، ولكن في حالة دونالد فإن الأمر بالعكس، فلا يوجد نجم أفلام تُرك في كومة دبشِ عناوينِ النهاية كما ترك هو غالبا، ولا توجد طموحات لبطل كوميدي أحبطت كما أحبطت طموحاته. إن دونالد تجسيد لكل عيوبنا" كما كتب مؤلفا الكتاب جي بي كوفمان وديفيد جيرستاين. قلت بأن الكتاب جنوني، وإن كنتم لا تصدقونني يجب عليكم أن تدركوا أنه ضخم، كتاب يُقرأ على منضدة القهوة، حاويا مقالات نقدية وملخصات حبك القصص لكل أفلام ديزني التي يظهر فيها ذكر البط بدءا من كارتون سنة 1934 "الدجاجة الصغيرة الحكيمة"، وهو مزين بثراء باللقطات الملونة من أول أعظم أدوار داك، واسكتشات القصص ورسوم الخلفيات وكذلك عدد وفير من صور والت ديزني. تبرز شخصية دونالد داك ببطء. هو في البدء أصغر دورا بمشيته البطاوية في أفلام كارتون ميكي ماوس، غير أن "مزاجه المرعب" يمكنه من البروز سوبرستار، وتواتيه الفرصة للظهور ليس في فيلم بل في مطبوعات عندما طُبع "حياة دونالد داك" عام 1941. لم يكن المؤلف المجهول لهذه "السيرة المجازة" سوى تيد جايزول المشهور بدكتور سوس. إن مبيعات دمى وتسجيلات فونوغراف "دونالد داك" وما شابه جعلته أكثر شعبية، وكما في حالة عائلة ترامب فإن صعود داك ساهم فيه الظهور التدريجي لحاشيته العائلية وأبناء أخيه هُوي ودُوي ولُوي، وعمه سكروج وصديقته ديزي. كان أبناء أخيه أضحوكات، يفرغ فيهم دونالد نوباته العصبية. كذلك فإن أشخاصا مثل جس وجوز أقل أهمية بحد ذاتهم، وهم كما في كل أجزاء دراما ترامب مجرد أدوات لإظهار حسن صفات الآخر بالمغايرة، فنكون عندئذ راغبين برؤية كيف سيتصرفون، أو يُدَقُّون، على يد دونالد.
إن دونالد وميكي، "ذلك الفأر الملعون" كما سماه جورج في، هما مناظرا البشر في العالم الحيواني للقرن العشرين، وهما شخصان صغيران، ولكنهما أكثر مكرا مما قد تظنه الحيوانات الضارية الأضخم، متنكران كحيوانين، يهزان قبضتيهما بوجه السلطة. استشهد المؤلفان بناقدين من مدرسة فرانكفورت، ماكس هورخايمر وتيودور أدورنو، اللذين ناقشا في "ديالكتيك التنوير" عام 1947 تلك التسلية الشعبية، خصوصا أفلام الكارتون في السينما، المتضمنة التفسير لإنحطاط الغرب. إن الأفلام، كما اعتقدا، تفسر لماذا كان الطغاة في غاية النجاح في الحصول على السلطة. كتبا قائلين إن: "دونالد داك والتعساء في الحياة الواقعية ينالون جَلْدهم لكي يتعلم المشاهدون كيف يأخذون عقابهم. كان ذكر البط غالبا تمثيلا رمزيا للجماهير المسحوقة في المجتمع الصناعي الحديث".
أود أن أضيف بأن أفلام الكارتون هذه تلعب، بطريقة أبسط، بالنسبة إلى جمهور أواسط القرن العشرين الدور نفسه الذي كانت تلعبه تراجيديات "أسخيلوس وسوفوكليس" بالنسبة للأثينيين خلال اشتعال وخفوت الحروب البيلوبونيسية، وبالذات فكرة أنك لا يمكنك النجاة من القدر. إن التراجيديات الاغريقية وكوميديات ديزني لا تعتمد على اثارة المشاهد بجعله جاهلا لما يمكن أن يحصل، بل العكس. سواء كان الجمهور يلاحظ دلو ماء ويعرف أنه سيقع على رأس أحدهم، أو يراقب آجيمنون يأتي إلى البيت لزوجته، فإن رضاهم يستمد من معرفتهم بما لا يمكن تجنبه قبل وقت طويل مما يستطيع سيء الطالع داك أو فرد من دمويي آتريوس فعله.
إن داك كما في حياته على الشاشة هو أيضا شخصية في الرسوم الكارتونية في الصحف يظهر في هذه الدورية الأميركية أو تلك، خصوصا هيرالد ستيتسمان، يوميا من سنة 1941 الى سنة 1981. يبدو أن عدد الأفلام لا نهاية له. في فيلم، ربما كان يتوقع ظهور دونالدنا الحالي، هو فيلم "لعبة غولف دونالد" عام 1938 يفقد ذكر البط باستمرار هدوئه من أقل إثارة، لديه كرهٌ معين لغناء طير، ولكرة الغولف التي تختفي فيها جرادة، وغير ذلك. نحن نتذكر من الفيلم الذي أخرجه "جون كانون" لقطة يقوم فيها داك بسوق الكرة تحت الماء بالحركة البطيئة. في فيلم يعود إلى العام 1939 يذهب دونالد إلى هوليوود ليجمع تواقيع من نجومه المفضلين، فيجد بالعكس غريتا غاربو وميكي روني وأمثالهم يتدافعون للقائه. إن هذا يوحي بأن فريق ديزني قد نسوا نكتة دونالد التي كانت تقتضي أن يكون متمرداً وضد النظام. حتى أثناء الحرب العالمية الثانية كان دونالد مؤيدا للمشاعر الكندية الوطنية بوضع مدخراتهم لصالح الحرب، وبعد بيرل هاربر ابتكر ديزني "دونالد الطيب" الذي يدخل في حوارات فاوستية مع "دونالد الشرير" ويبرز كوطني يزيح أنانيته ورداءة طبعه جانبا في سبيل المجهود الحربي.
إن المحللين السياسيين المتزنين يعبرون أيضا عن الأمل بأن الرئيس دونالد في رئاسته الثانية سينسى خصلته الجذابة، الاستعراضية، ويصبح رجل دولة مسؤولا، وإذا كان فِعْل هذا قد مر في باله يوما، فإننا نأمل أن يجلس ذات مساء ليأكل الهمبرغر وهو يشاهد سميه في الفيلم الكارتوني "رئيس قسم المطافئ" عام1940 . إن ذكر البط الذي كان سابقا عضواً في فرقة ميكي ماوس لإطفاء النار يسيطر على التجهيزات ويبدأ بمكافحة النار. يذكرنا نقادنا بأن: "واحدا من الأشياء المرئية المثيرة للاهتمام نفذها هال كنغ في لقطة طويلة: دونالد، وهو غير عارف بأن الخرطوم معقود خلفه، يوجهه الى الحريق الهائل بينما ينتفخ الخرطوم إلى منطاد مائي هائل، ثم ينفجر، مطلقا سيلا من الماء".
The times Saturday review,
11 november 2024