السرد بين الشعر العمودي وقصيدة النثر

ثقافة 2024/12/02
...

  د. كريم شغيدل

إن البنى السردية التي حفل بها النص الحديث، لم يخل منها النص العمودي، بقصد أو دون قصد، لكن الدافع الثقافي لم يكن متوفراً بالصورة المتوفرة في نزوع القصيدة الحديثة نحو السرد، ذلك أن القصيدة التقليدية لا تزال متشبثة بالعوامل الشفاهية وفخامة الخطاب المنبري، ولا تزال أسيرة الفنون البلاغية التي تستدعي جزالة الألفاظ وحسن الصناعة أو الصياغة في ضوء المعايير التقليدية القديمة، فضلاً عن كونها حظيت بفرص الاتصال بالمتلقي وترسيخ شفاهيتها.
 إذ وفر إعلام الحرب إبان حقبة الثمانينيات منبراً رسمياً للقصيدة العمودية، أعاد لها أمجاد الحماسة والمديح والفخر وأدوات القتال ومجمل القيم الصحراوية التي بنيت عليها القصيدة العربية التقليدية، ونجد أن خروقات النص الثمانيني كانت في بعض منطلقاتها بمثابة ردة الفعل الثقافية على ذلك التكريس الرسمي لقصيدة الحرب العمودية، التي وظفتها الآلة الإعلامية للحرب، وما توظيف البنى السردية إلا تعويضاً عن بعض عناصر الشفاهية التي تقتضيها عملية الاتصال المباشر بالمتلقي، كما هي تعويض للذات الشاعرة، التي يوفر لها السرد نوعاً من الخروج عن العزلة، أي تحقيق اتصال ذاتي مع متلقٍ مفترض من داخل النص، ومن ثم إحداث حوارية مفترضة داخل النص، ومن هنا ولد نص تلك الحقبة متعالياً على المتلقي وغير معوّل على تفاعله أو انفعاله.
هناك أيضاً عامل المثاقفة، الذي ينعكس على التجربة، فالرواية عموماً تتوفر على ثراء لغوي يستميل الشاعر، وعلى خيال حكائي واسع إلى جانب التجربة الكبيرة التي تصنع الرواية، وهي مزيج من خلاصات معرفية ووعي ومحاكاة وخيال وسيرة ورؤية وتجربة ثقافية معمقة، كما هي مزيج من خلاصات تاريخية وأسطورية ووقائع يومية وموقف من الحياة، وأيضاً هي صناعة أدبية لها تياراتها ومدارسها ونفوذها الثقافي على القارئ المعاصر، وهذا ما ينطبق على مجمل فنون السرد، وبغير ذلك لا يكون السرد مميزاً أو مبرراً، وتجدر الإشارة إلى أن قصيدة النثر، بحسب توصيفات سوزان برنار، هي غير تلك المواصفات التي اتسمت بها قصيدة النثر العربية أو العراقية، وأن نصوص الحداثة الإنجليزية التي ألقت بظلالها على تجربة رواد الشعر الحر في العراق، لا سيما تجربة الشاعر "ت. س. إليوت" وبالأخص قصيدته الشهيرة "الأرض اليباب" ومن ثم تجربة الشاعر الفرنسي "سان جون بيرس" في حقبة لاحقة، كلاهما تكتسب أهميتها من توظيف السرد، وبدخول روايات أميركا اللاتينية، التي أشاعت مفهوم الواقعية السحرية، إلى جانب مرجعيات مثاقفة أخرى يطول تفصيلها، كل ذلك كان حاضراً في استدراج القصيدة الحديثة إلى مناطق السرد بقصديات جمالية ودلالية.
من جانب آخر نجد أن مشكلات العصر الحديث وهمومه وأجواءه وتحولاته الحضارية، قد جاءت بمضامين جمالية أخرى مغايرة للسائد، كما أن العلاقة الوجودية للإنسان مع العالم الذي يعيش فيه قد طرأت عليها تحولات جذرية، وهذا ما استدعى اجتراح مضامين جديدة، وهذه المضامين الجديدة بحاجة إلى بنى تعبيرية مغايرة، علاوة على ما طرأ من تحول في وظيفة الشعر نفسه، فوظيفة القصيدة الحديثة اليوم هي غير وظيفة القصيدة الجاهلية أو قصيدة صدر الإسلام أو القصيدة في العصرين الأموي والعباسي، و لا تشبه أيضاً وظيفة الشعر الذي ساد في ما سمي بالحقبة المظلمة، وأن مضامين اليوم غير مضامين الأمس، كما أن التحول طال قنوات الاتصال وأساليب التلقي، فقد غادر النص منصة الإنشاد أو بلاط الخلفاء وأسواق المواسم، ليصبح نصاً مكتوباً للقراءة والتأمل ومحاورة القارئ، لا للإنشاد واهتزاز عاطفة المتلقين ومشاعرهم، ولم يعد فيه وجود للآخر المخصوص بالغرض الشعري، إلا من باب الافتراض، وأجد أن الهمَّ الوجودي الذي يحاكيه النص الحديث أكثر تعقيداً وسعة وإنسانية من الهمَّ الذي كان يشغل الشاعر القديم، فعلى الرغم من قسوة الحياة وصراعاتها التقليدية كانت ثمة بساطة في العيش وعلاقات أقل تعقيداً، ويمكن القول إن الهمَّ كان محلياً مرتبطاً ببيئة العيش، حتى تعقَّد عبر مراحل الانتقال الحضاري، وليس أكثر من الشعر استجابة للتحولات، وهذه التعقيدات تستدعي قوالب تعبيرية– إن جاز القول - غير القوالب الجاهزة التي أنتجتها المضامين والهموم القديمة.
كان الشعر التقليدي محاكاة غنائية أو ذاتية، وإن انطوى على شذرات معرفية لا يمكن تجاهلها، أما الشعر الحديث فهو محاكاة ثقافية، تشتغل على مختلف التناصات المعرفية والفلسفية والأيديولوجية والجمالية وحتى السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا لا يعني انتقاصاً من التراث الشعري الذي لا يزال يحتفظ بسمة الخلود على الرغم من التحولات البيئية والثقافية التي ولد في ظلها، شأنه شأن الفنون والآداب العالمية الخالدة فقد "احتار ماركس في مسألة احتفاظ الفن الإغريقي بجمال أبدي على الرغم من أن الظروف التي أنتجته قد ذهبت منذ زمن بعيد" كما ورد في كتاب (مقدمة في النظرية الأدبية) ولسنا بصدد المقارنة هنا، إنما أردنا القول إن نزوع القصيدة الحديثة نحو السرد له ما يسوغه ثقافياً، بينما يأتي السرد في القصيدة العمودية ضمن سياقها البنيوي، ومن دون قصدية جمالية أو بعد ثقافي.
نرى أن الطابع السردي للقصيدة يحرر الشاعر نوعاً ما من البنى البلاغية المتوارثة ليحقق فكرة الخروج على السائد، كما أنه يمنح القصيدة زمناً نفسياً أطول مما تمنحه البنى المحايدة للتعبير، أي التي لا تملك المحتوى السردي "فالزمن مجسد في الشخصيات ظاهر من خلالها، ومن ثم فسرعته نفسية تحددها سرعة الحدث وإبطاؤه" كما يقول إدوين موير، وهذا طبعاً ينعكس على القراءة، وعادة ما يوفر الطابع السردي مساحة أوسع للتجربة الذاتية.