الفلسفة ورهانات الواقع

ثقافة 2024/12/02
...

  حازم رعد

الرهان مفردة أعم من كونها إشارة إلى حالة سلبيّة في الواقع، فقد يكون الراهن هو الغاية والمقصد الذي ينشده الإنسان في سعيه المعرفي أو العملي على مستوى الاقتصاد والسياسة والاجتماع البشري، فقد يحمل معنى الرهان دلالة التحدي وأخرى تكون مطلباً للواقع.
وإذا أردنا الكلام عن رهانات الواقع، فيسعنا القول إنّها كثيرة ونتيجة لذلك يكون حديثنا عنها ليس من قبيل الاحاطة بها، بل للإشارة وإثارة الأسئلة عنها فقط "إنّ واحدة من أهم وظائف الفلسفة هو أن تثير التساؤلات والاستفهامات وتلفت أنظار الناس إلى الموضوعات والاشكاليات التي تشكل رهاناً في الواقع الإنساني"، والرهانات هي التعبير الآخر عن التحديات، والأخيرة قد تحمل معنى المشكلات التي يواجهها الإنسان في العالم "إذ هو المعني من بين كل الكائنات بالعناية والتأثر"، هذا حتى لو تعرضنا للإنسان من وجهة نظر السفسطائيين كونه معيار الصدق والكذب والحقيقة.
وأما عن مدى تأثير تلك التحديات والمشكلات في حياة الإنسان، فيكفينا أنّها في تطور مستمر فكلما أخذت نحواً من النضج والتحول أثرت في واقع الناس من زاوية معينة، وكلما تكثر تلك التحديات حوصر الإنسان وزيد في معاناته وارتفعت نسبة أضراره ومآسيه.
تبدأ أولى حلقات مسلسل المأساة بالنسبة للإنسان من داخله، أي في الطريقة التي يفكّر بها، وهذا هو التحدي الأول الذي يواجهه الإنسان في مختلف مراحل حياته، ومن هذه المنطقة تحديداً يمكن التنبؤ بالمطبّات التي سيصطدم بها الإنسان فيما لو كانت طريقة تفكيره خاطئة أو يتخللها الضعف، فقد يقود ذلك إلى الاستعجال بإطلاق الأحكام وتعميم وجهات النظر في حين أن كلتا الممارستين خطأ وغير ملزمتين.
ثم يتطور مشهد التحديات إلى صراع الهويات الذي يمكن أن نؤرخ له وقت نشوبه مع انتهاء الحرب الباردة وانحلال الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين وصعود نظام القطب الواحد لإدارة الهيمنة على العالم وإرادة فرض نمط واحد من الاشتغال الهوياتي والحضاري، وفي المقابل رهان الهوية هو الشغل الشاغل للجماعات التي تعتز بها، وأجدها ضرورة لإثبات الذات والحضور والشخصية المعنوية الجامعة، وأن المساس بها من خلال محاولات تهميشها أو الإقلال منها اعتداء يستدعي الوقوف ازاءه ومواجهته، ومن هنا تنطلق الشرارة الأولى للصراع "الهووي".
ولا تنتهي تحديات الواقع عند هذا الحد، بل تستمر مع انهماك الإنسان بإعادة انتاج إجابات عن أسئلة الإنسان الوجوديّة الكبرى التي ما انفكت تترى تُعيد نفسها بإلحاح على الإنسان، مروراً بتحدٍّ جديد وهو الذكاء الاصطناعي الذي هو في سعي دؤوب لأخذ محل الإنسان في عملية التفكير بدلاً عنه والدفع باتجاه الاطمئنان الى مخرجاته ومستقبل الإنسان في ظل هذا التحدي الذي يصفه كثير من المفكرين بالخطر، فضلاً عن تقدم العمل في مجال صناعة الروبوتات المسألة التي حدت باليونسكو أن يكون لها تساؤل واضح عن بقاء ماهية الإنسان كما هي أو تتعرض هي الأخرى للتهميش والتحول، فمثلاً تعمل الفلسفة على التفكير في الجانب الأخلاقي للذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الروبوت فتطرح أسئلة تخص المسؤولية والخصوصيّة والأمان، وكذلك تعمل على فهم وقياس الوعي لهذه التكنولوجيا ومقارنته بالإنسان.
كذلك من التحديات الكبيرة هو المخاطر الناجمة عن الطبيعة "البيئة" من قبيل التلوث البيئي والتصحّر والجفاف، والتي هي تبحث في حقل فلسفة البيئة او الايكولوجية، فتشتغل الفلسفة بالنسبة لتحدي المخاطر البيئيّة على فهم المسار الذي تتحرّك فيه الإرادة البشريّة في استغلال موارد الطبيعة وربط ذلك بالجانب الاخلاقي فالجشع والطمع والرغبة بالثراء الفاحش أسئلة مهمة في هذا المجال، وكذلك تعمل الفلسفة على طرح مقاربات تساعد على ايجاد نحو من التوازن بين متطلبات العيش الإنساني المتعلق باستغلال الطبيعة "البيئة" وبين الحاجات المطلوبة لتجنب أو دفع تلك المخاطر عن الإنسان.
كذلك من الرهانات التي تهتمُّ لها الفلسفة وتجعلها من أولوياتها هي قضية الاختلاف العرقي والديني، وتهب لهذا الأمر جزءاً كبيراً من اشتغالها، وكيف تعزز مفهوم أو سياسة الاعتراف كمعالجة عقلانيّة حقيقيّة للموقف المذكور، فما لم تعالج هذه الاشكاليّة فلسفياً لإيجاد حلول عملية لها تبقى حياة الجماعات المختلفة واقفة على صفيح نار الصراعات الطائفيّة والعرقيّة ممشوقة باحتكار الحق وإقصاء الآخر، كذلك هناك تحدي الصراع الايديولوجي الذي حول واقع منطقة الشرق الأوسط تحديداً إلى مأساة حقيقيّة، هو أيضاً سؤال راهن للفلسفة تبحث فيه ومطلوب منها بحثه واجابته.. هذه التحديات وغيرها مهمة تقع هلى عاتق الفلسفة بشكل أساسي وواجبها أن تقدم حلولاً ومقاربات لمعالجة هذه المسائل والتحديات.