مرتضى الجصاني
ورث الخطاطون من سوق الورّاقين في بغداد صنعة الخط، وهذه الصنعة لها تفاصيل وأصول سار عليها أهل الخط منذ ذلك الحين، ومع تطور الوسائل والفكر، صار الخط العربي يميل إلى الفن أكثر من الصنعة، لكن بَقِيَ تعليمه بأسلوب الصنعة المعتمدة على مكاتب الخطاطين والتي تحولت شيئاً فشيئاً إلى مكاتب إعلان تجاري، من هذه المراكز الفنيّة والتراثيّة في محافظة واسط مكتب الخطاط جواد الغرباوي، في محلة المشروع أحد المناطق التراثيّة في مدينة الكوت، يعدُّ مكتب الغرباوي إحدى الايقونات الفنيّة، كونه أحد المراكز العريقة في المحافظة منذ العام 1968، عندما كان مقره القديم بجانب جامع الكوت الكبير.
إنَّ الأماكن التي ترتبط بحياة الناس والمجتمع والمهنة تصبح جزءاً من تكوين بيئة المدينة، ومن ثمَّ تستقر في وجدان الإنسان، يتعاطى معها المواطن الواسطي يومياً كشيءٍ أيقوني ثابت، يضاف إلى ذلك فإنّ مكتب الغرباوي ليس محلاً للخط فقط، بل هو أشبه بالمعرض الفني الدائم، حيث تزيّنه لوحات الخط العربي من كل جانب، مما يجعل الزبون أو الزائر يسرح في نزهة لونيّة وخطيّة، ذلك لأنَّ الخطاط جواد الغرباوي هو أحد الوجوه التربوية العريقة، حيث عمل مدرّساً في معهد المعلّمات من عام 1992 إلى عام 2000، وتسلّم مسؤولية الخط العربي والزخرفة في مديرية تربية واسط والنشاط المدرسي، لذا مكتبه مكان دائم لتجمع المثقفين والفنانين من المحافظة حتى بعد انحسار مكاتب الخط العربي وتحولها إلى مطابع تجارية، مثل هذه الأماكن التي يختلط فيها الفني بالتجاري هي حالة خاصة لا تتكرر كثيراً، تنمو مع الوقت وتمدُّ جذورها في ذاكرة الإنسان، والخط العربي انفرد بهذه الخصوصيّة منذ زمن بعيد، لأنَّ الخط العربي يتعامل مع لغة يوميّة يحتاجها الإنسان في التعبير عن حاجاته الحياتيّة، والخطاطون يحاولون إمساك العصا من المنتصف، بيت الفني والتجاري، أو تحويل التجاري إلى فني، من هنا تجد إلى جانب أعمال الإعلان التجاري هناك أعمال فنيّة خاصة بالخطاط نفسه، يحتفظ بها مثل شيء ثمين وكأنّها مساحة موهبته الخاصة، التي لا يريد مقابل مادي لها، إنّما يكتفي بمتعة النظر إلى جماليات الخط فيها واللون، وبالعودة إلى أعمال الخطاط جواد الغرباوي، هي أعمال تكاد تنفرد في ميزة خاصة، حيث تجمع بين الفنية، والتجارية. بمعنى أن الغرباوي لم يكن متزمتاً في صناعة لوحته، فمنذ بداية السبعينات كانت له الجرأة في استخدام خامات مختلفة غير الورق للأعمال الفنية، حيث استعمل خامات وألوان لم تكن مألوفة في حينها، في صناعة أعمال فنية كلاسيكية، معتمداً على ذات الخطوط الأصيلة نفسها، من الثلث والديواني الجلي والنسخ ..الخ، مع استعمال زخارف أيضا تميل إلى الابتكار والإبداع، فعلى الرغم من أن الزخارف التي يستعملها في لوحاته هي تنتمي للزخارف "الإسليمية"، إلا أنّه يجتهد في طريقة التلوين والتكوين، مما يجعلها بصمة خاصة في العمل الفني. عادةً يميل الغرباوي في أعماله الفنيّة الخطيّة إلى استخدام نوع من أنواع الخشب الرقيق أو "المعاكس" كما هو معروف شعبيّاً، بعد معالجته تقنياً يجعله سطحا مناسباً لأعماله، ويخال لي أنه رائد في هذا المجال، أقصد في مجال استبدال الورق الخامة الأثيرة والحميمة للخطاطين بالخشب، ذلك لأنّه بدأ مبكراً في استخدامه كخامة فنية لسطح اللوحة، وبقي ينوّع في استخداماته من حيث اللون أيضاً، فاستخدامه لألوان الأكريلك بدرجات وتلوينات تجعل اللوحة نزهة للعين، وعلى ما يبدو أن هذه الأعمال تنفذ بصورة مباشرة على سطح اللوحة، بعد مسودات بسيطة، مما يجعل العمل أشبه بطريقة "المشق" المعروفة لدى الخطاطين، من جانب آخر لها دلالة على مهارة الخطاط الغرباوي والخبرة في التعامل مع السطوح غير التقليديّة، إذ يشكل اللون في لوحات الغرباوي وحدة أساسيّة، من خلال التحكّم بالدرجات اللونيّة وتدريجاتها سواء من خلال الأركان الزخرفيّة أو من خلال الكتلة الكتابيّة نفسها، بمعنى نجد في الحرف الواحد الذي يأخذ شكلاً أصولياً في أحد أنواع الخطوط، يمكن أن نشاهد تدرّجاً لونيّاً في ذلك الحرف، مما يضيف شكلاً جمالياً على الكتلة الكتابيّة ككل، وتنسحب هذه التقنية في تدرّج اللون واستخداماته على الزخرفة أيضاً، التي نجدها متنوعة في توظيفاتها في اللوحة.
إنَّ أهمية أعمال الخطاط جواد الغرباوي تكمن في اختلافها وتفرّدها من حيث التقنية ومادة العمل الفني مع التزام الخطاط بأصول وقواعد الخط العربي كما هي، خصوصاً وأن الخطاط جواد الغرباوي تتلمذ والتقى بعميد الخط العربي هاشم البغدادي، كذلك التقى أكثر من مرة بالخطاط التركي الشهير حامد الآمدي ومنحه إجازة في الخط العربي وأصوله، فهو امتدادٌ لهذه السلسلة من الخطاطين مع محاولات جادة في التفرّد والخصوصيّة.