حسب الله يحيى
عصر كل يوم، يلتقط كتاباً يختاره بدقة من مكتبته الغنيَّة، ويذهب إلى هناك.. هناك حيث العشب الدائم الخضرة، والمياه العذبة، والجمع من الوجوه الباهرة، الفاتنة، الباسمة، المنتشية شباباً وألقاً.
ينتقل بعينيه الحزينتين إلى هذا الثلاثي، ثم ينصرف إلى كتابه.
في هذه الاثناء، يمر بائع الشاي المتنقل "أبو كازو" منشداً القصائد الشعبيّة المثيرة والأغاني الموحية، ويلقي نكاته أمام زبائنه.
أجلس على صفيحة معدنية صدئة وأصغي إليه، وأنسى تناول الشاي، أو أتناساه في أحيان كثيرة، ذلك أن "أبو كازو" يخدع زبائنه بعطر الشاي، فيما يقدم لهم قدحاً من شاي محترق ظل يئن فوق نار الفحم الدائمة الاشتعال.
كان للرجل جاذبية في الحديث، يأنس لها كل من يلتقي أو يعرف هذا الرجل الذي ألف هذا المكان الفاتن.. خضرة ووجوهاً وماء.
صحيح أنه كان قد تجاوز السبعين من العمر، لكنه يتحدث اليك كما لو أنه في سن الثلاثين أو أقل من ذلك..
كان يبدو أمام زبائنه، كما لو أنه بائع نكات، وليس بائعاً للشاي.. ذلك أن ثروته الرائجة كانت هي السائدة، فيما يعد شايه سبيلاً أو واسطة أو وسيلة للجلوس عنده والأصغاء إلى نكاته.
كنت واحداً من الزبائن الذين يلتفون حوله، ويمنحونه نقوداً مقابل شاي لا يشربونه في الغالب، وإنما يسكبونه على الأرض بعيداً عن أنظاره.
وسواء عرف هذا أم لا؛ ما كان يلتفت إلى زبون يعاف شايه، ولا آخر يشربه على مضض، ولا ثالث يسكبه.
المهم أنه الرابح في كل الأحوال.. سواء كان هذا الربح من شاي رديء، أو نكات مبتذلة، فالجمع ما بين الرداءة والابتذال.. أمر واحد، والمسألة أن تعطي لصاحبها تخويلاً مفتوحاً باستقبال نكاته برحابة.. ودفع الثمن، على أنه ثمن لشاي معطر!
وفي الغالب؛ كان يحدثنا عن شخصية نعرفها جميعاً تدعى "حاتم الفارس" ولم يكن اسمه يقترن بالفروسية عن حق، ولا خيوله لها امتياز في سباقات معلومة، ولم يكن حاتم.. يحتم على نفسه أن يكون إنساناً عادياً وإنما هو فارس لا يضاهيه أحد، وخيّال لا يعرف أصل الخيول سواه.
كنا نعرف هذا.. نحن زبائن الشاي المعتق!
لكننا نقبل بالتكرار، ذلك أن "أبو كازو" كان يقدم لنا كل تلك المواصفات بطرقة تختلف عن اليوم السابق، حتى يبدو لنا كما لو أنه فنان يعزف على كل الآلات الموسيقية باتقان وإبهار.
شخصياً – أنا قارئ الكتب- وصفت "حاتم الفارس" في منطقة لا تختلف عن شخصية دون كيشوت التي عرفّنا بها كاتب اسباني يدعى سرفانتس.
لكن أن تقرأ عن شخصية ما، مسألة تختلف عن شخصية حيّة تماثلها، تعرفها، ويتحدث سواك عنها بطريقة حلوة جذابة.
مرة سألت "أبو كازو": هل كانت لـ "حاتم الفارس" خيول معدة للسباقات؟ حدق في وجهي بغضب ليس من طبعه.. قال:
- وهل كنت أتحدث عنه رجماً بالغيب؟!
خفف عدد من الزبائن من غضبه، وصالحوه بطلب عدة أقداح من الشاي ودفعوا اثمانها مقدماً..
فمضى يقول:
- حاتم الفارس، لا يملك سوى حصان أعرج وشائخ.. بالكاد يتناول طعامه، ويرفض حاتم أن يرى حصانه أحد، خوفاً من الحسد، فهو لا يأمن مثل هذه العيون التي تؤثر في فوز حصانه في المسابقات.
- ومتى رأيت هذا الحصان؟
سأله أحدنا.. قال:
- رأيته أول أمس.. عندما حملت إليه ما تبقى من الشاي.. الذي يسقيه لحصانه بهدف الشفاء.. والنشاط كما يقول "حاتم..".
ضحك احدنا.. قال:
- يعني .. حال الشاي معنا؛ حال حصان "حاتم الفارس"!
ابتلع " أبو كازو" الكلمات وامتعض وارتضى واحتكم إلى عقله.. قال:
- وهل أنتم أفضل من حصان "حاتم.."؟!
قلنا بصوت واحد:
- حصان "حاتم.." أفضل منا جميعاً، لأننا مجرد بشر لا غير.. بينما حصان "حاتم.." أثمن منا جميعاً..
فيضيف "أبو كازو":
- طبعاً الحصان هذا بالذات أفضل منكم.. فهو يدخل السباقات ويفوز بالكؤوس الذهبيّة ويجني الأموال والامجاد كذلك..
وتوقف "أبو كازو" عن الحديث.. ثم انطلق، كما لو انه قد نسي أمراً كان في باله.
- رأيته أمس، رأيت "حاتم الفارس" بعيني التي سيأكلهما الدود، رأيته عند غياب الشمس بقليل، وقبل أن يسدل الليل ستاره، رأيته بعيني التي لا يمكن أن أكذبهما والله.. رأيته مستلقياً على بطنه عند حافة النهر.. حسبته غريقاً، وقد وقف عند رأسه، اثنان كاملا القوة والشدة والبأس، ممن أعرفهما بالسوء.. سوء.. سوء بكل الأوصاف والأعراف، ومن هذا المكان المرتفع، ناديت على "حاتم الفارس".. حاتم هل تحتاج إلى مساعدة، هل أنت غريق؟
- أجابني بسرعة، فيما كانت عيون الشابين تفترساني بنظرهما..
- - لا..لا، لديّ أسلحتي، وأشار إلى مسدس كان على يمينه وخنجر كان على يساره.. سألته وماذا تفعل بأسلحتك؟
- استخدمها عند الضيق، عندما أحتاجها..
واجبته من دون حساب إلى النظرات القاسية التي أرسلها كلا الشابين الشرسين:
- وهل من ضيق أكثر من هذا؟
وابتعدت.. خشية أن يلحق الأذى بي احد الشابين أو كليهما..
سأله واحد من الزبائن بشكل مفاجئ:
- "أبو كازو".. لماذا سميت بهذا الاسم؟
- لأنني كنت قد اشتريت قليلاً من مكسرات الكازو لأولادي الذين كانوا يحبونها، فأخذها مني "حاتم الفارس" وقال: حصاني يحبها وهو أولى بها من أبنائي.. لأنهم كسالى، بينما حصانه يدر على البلاد المال والذهب والمجد والشهرة.
- يعني هو من جعلك تعرف باسم "أبو كازو".
- نعم هو وليس من أحد سواه.
- وهل أنت سعيد بهذا الاسم؟
- لا.. أبدا فالاسم الذي ينطق به "حاتم الفارس" لا يعتد به ولا يشرف صاحبه، ولكن ماذا أفعل والكل يناديني بهذا الاسم؟!
اغتنمت لحظة صمته، وصمت زبائنه:
- "أبو..." هل في الحي من يماثل "حاتم.."؟
- أوه كثيرون.. ولكنه أبرزهم..
- وما الذي يميزه عن سواه؟
- ضحك.. هه..هه.. صار مصدر رزقي.
- وهل ترضى العيش على زيف هذا الرجل؟
تأملني ملياً وقال:
- هكذا هي الحياة يا بني.. هناك من يعيش ويغتني ويشتهر كفارس مقدام، فيما يعيش سواه من أمثالي على السخرية من فروسية كاذبة.. ختم "أبو كازو" جملته، فيما خيم الليل علينا..
ودعناه على أمل أن نلتقي عصر اليوم التالي.. ليعيد إلينا أحاديثه وما كان من أمر "حاتم الفارس" وحصانه المتعب وأسلحته.. التي لم تعد أسلحة أمام ضائقته التي ارتضاها لنفسه.. كبرياء وزيفاً.