إغراء

ثقافة 2024/12/04
...

الطاهر بن جلون


ترجمها عن الفرنسية: جودت جالي




-” إحْكِ لي حكاية حب، حكاية شرقية، حكاية جميلة عن الحب، والغيرة، والدم، والموت! إحك لي حكاية وإلا أقتلك!”، 

قالت هذه الكلمات برقة غريبة. عيونها مبللة بللا خفيفا، ونظرتها حزينة، وكل جسدها مائل نحو ذراعي الرجل الذي يغازلها منذ بعض الوقت. أضافت قائلة :” أنا مثل نبتة، إن لم تسقني، فإني أذبل. أنا بحاجة لأن تسقيني بكلمات وعبارات تحكي حكاية. لن أكون لك إلا إذا أثارتني حكايتك، إلا إذا جعلتني أذرف الدموع. إذا حققت هذا أمنحك نفسي جسداً وروحاً، كما يقول الشاعر :” إنما هي أزهار تسمى أفكار/ قطفت منها ما استطعت في أغانيي”.

-” وإلاّ؟”.

-” وإلا، أقتلك!”. 

-” لكنك تعرفين جيداً بأني لست كاتباً ولا قصاصاً، وأكثر من هذا لست شاعراً. أنا مصرفي أقضي أيامي بين الأرقام، أذني مصغية إلى الهاتف بالضوابط التي وضعها مصرفيو العالم. كيف تريدين مني أن أتحول إلى مغوٍ وشاعر؟

-” إذن فبئس الأمر لك. ليست بي حاجة إلى النقود. أنا بحاجة إلى المشاعر، الكلمات، كلمات لا بد من معرفة اختيارها، زهور نسميها هموماً، وروداً نسميها حضوراً، آمالاً تسكن الأشجار، أغان تُرقص التماثيل، نجوم تهمس في آذان العشاق... بحاجة إلى الشعر، هذا السحر الذي يشعل الكلمات، الذي يوقظ المشاعر ويمنحها ألواناً جديدة. الكلمات التي تختار تراكيب غير متوقعة وتمدنا بالهوس والبهجة، تحملنا إلى أماكن منسية. هذا هو يا عزيزي ما أنا بحاجة اليه”.

-” لكننا يمكننا أن نجد تسوية، نوعاً من المقايضة، أقرأ لك حكايات كتبها أعظم الكُتّاب وأنت تمنحيني نفسك”.

-” كلا، فأنا لا أحتاجك في القراءة. لدي انطباع بأنك لم تفهمني. أنا بحاجة لأن أكون مَغْويَّةً من قبل راوي حكايات، حكّاء أسطوري للحكايات. هذا هو مطلبي، بعض النساء بحاجة إلى أن يتعشين عشاء مع الشمبانيا، أو يركبن سيارة ليموزين، أو يتزينن بحلى ذهبية، أما أنا فلست بحاجة إلا إلى الكلمات، ولكن ليست أية كلمات”.

-” أنت قاسية معي”. –” أنت الذي تريد هذا. لقد جئت مرات عدة إلى المكتبة، وكنت تبحث عن كتب في الاقتصاد، ثم ذات يوم اقترحت علي جولة بالسيارة معك، وذهبنا إلى الكورنيش واعتقدتَ أن هذا يكفي لأن أقع بين ذراعيك”. –” أنت جميلة، أنت رائعة ولكنك تضعين الحاجز عالياً جداً”.

-” أنا لا ألح. الفتيات في المغرب يصبحن أجمل فأجمل. لا بد أنها الدمقرطة هي التي تجعلهن أكثر جمالاً وأكثر حرية، ومنهن من تجد السعادة في الذهاب معك، لأنك جميل، ولديك نقود، ووجاهة”.

-” امهليني بضعة أيام”. –” خذ ما تشاء من الوقت. سأكون هناك، متعطشة للكلمات وللسر الخفي”. 

عاد بعد بضعة أيام وقال لها :” ما سوف أرويه لك يستحق أن يكون من ألف ليلة وليلة”. –” أنت تقوم بالمجازفة، لأني أعرف جيداً هذا الكتاب. لقد سبق أن قلت.. لابد من مكان مناسب”. –” لقد رتبت كل شيء. حجزت جناحاً في فندق حياة، وقلت لهم بأنني أﺨﻁڊ....”. –” أنت لم تفهم. إن قصة جميلة ليست بحاجة إلى البذخ والرفاهية. فكرتي أن نستقل القطار من الدار البيضاء إلى طنجة، وهذا سيستمر خمس ساعات ويكون لدينا الوقت لتحقيق حلمنا”. –” لكننا سنكون متضايقين من مسافرين أفظاظ، فضوليين، وأناس يقاطعون سرد القصة، ومتسولين يصعدون من المحطات...”. –” سيكون هذا هائلاً”. –” لست معتاداً على التحدث علانية. لست من قصاصي ساحة جامع الفنا!”. –” إنها خسارة!”. –” ما أن نصل طنجة هل ستقبلين بجناح في فندق المنزه؟”. –” هذا يعتمد على ما ستقصه علي، علاوة على ذلك توقف عن التحدث إلي كدليل سياحي”. _” أنت صعبة. أنت تبيعين الجمال بثمن غال”. –” لا أبيع شيئاً أبداً. فلنقل أنه شرط لم تعتد عليه. اسمع ما يقوله أراغون: “إن كنت تريد أن أعشقك فآتني بالماء الخالص/ الذي ترتوي به الرغبات/ حتى تكون قصيدتك دم جرحك/ مثل سقف/ يغرد للعصافير التي ليس لها مكان تعشش فيه”.

-” كلما امتنعت علي كلما رغبت في ترك...”.

-” هذا ليس صحيحاً، بل بالعكس تماماً، أنا لا امتنع عنك لغاية أو نزوة، بل لأن رغبتي لا تستثار إلا بالحكايات والقصص التي يرويها رجل. إنه شيء كيمياوي على نحو ما. قد يكون هذا عيباً فيّ ولكني فخورة بهذه الميزة. إن إثارة رغبة ليست مسألة تقنية، بل هي أكثر براعة. من يمكن القول أين تبدأ، أي نجم يجعل من سقوطه مصدر ماء ونور؟”. –” رغبتك تعتمد على الكلمات. لم أتوصل إلى فهم المقصود.. دعي الأمر..”. –” لا أطلب منك أن تفهم، بل أن تثير رغبتي”. –” ألا تفضلين المداعبات؟”. –” المداعبات. إنها مادية. أريد صوت الكلمات، السحر الذي ينبثق ليلاقيها، الألوان التي تحلق فوق أحلامنا، التخيل، الحرية المدهشة التي ترقص في روحنا، إنها ذهنية”. –” أنت ذهنية. جسد سام برأس غاية في التعقيد. هذا هو”. –” لا أحكم عليك. نتوقف هنا، أنت تعود إلى مصرفك وأنا إلى مكتبتي”. –” هذا هو ما يسمونه انحرافاً مهنياً. لقد تلوثت بكتبك التي تحيط بك يومياً. تتخيلين نفسك في رواية، وبدلاً من أن تمارسي الحياة تقضين وقتك تتلين القصائد، ولكن هذا شيء خطير، إذ بلغت متلازمة غريبة. كانوا في وسط البورصة يقولون...”. –” هذا ليس مرضاً. أنا أحب الكتب كما تحب أنت عمليات البورصة”. –” فهو استيهام إذن”. –” أنا أكره هذه الكلمة. يستخدمونها خبط عشواء. إنه ليس مرضاً ولا استيهاماً. أنا ما أنا عليه ولن يغيرني أحد. إني لأجد في الشعر ما لا يعرف أي رجل منحه لي”. –” سأجن، أنا أعشق واحدة من الفتيات الأكثر تعقيداً في المغرب. قُدِّر علي أن ألتقي بها! لم أعد قادراً على التركيز في عملي. أنا أفكر فيك طوال الوقت، صورتك تلازمني، وصوتك لا يفارق أذني، ولا أنْفكُّ أشم عطرك”. –” أنت لست بعاشق لي بل تشتهيني، وهذا مختلف، يمكنني أن أحبك ولكي يتحقق هذا عليك أن تتصرف بشكل مختلف. قليلاً من الخيال، يا سيدي المصرفي...”. –” من الخيال؟ لا أعرف ما هذا”. –” ابتكر لي حلماً، اجعلني أحلم، أحلق، اعطني أسباباً لكي أجدك فريداً، رائعاً، ذكياً”. –” أنت تغيظينني”. –” إلى اللقاء، سيدي المصرفي. عندما تصبح جاهزاً تعرف أين تجدني، والمكتبة مفتوحة حتى في يوم الجمعة”.

بعد ثلاثة أشهر.

تجمع حشد أمام المكتبة المغلقة. الشرطة تحاول تفريق الناس الفضوليين. التعليقات تأتي من كل جانب:

-” امرأة في غاية الجمال، واللطف، والأناقة، والثقافة، كيف أمكن حدوث هذا الأمر؟”. –” يجب أن لا نثق بالمظاهر، فنحن لا نعلم بما في الداخل، ولا نعلم حتى من أية مدينة جاءت”. –” لو كنت أنا القائل لقلت من أي كوكب جاءت، لأن جمالها كان مهيباً والرجال الذين حاولوا إغراءها سرعان ما يتخلون عنها وحتى يهربون. كنت أعرف رجلاً شجاعاً انتقل إلى مدينة أخرى. كان مستعداً لهجر زوجته وأطفاله للعيش معها، ولكن لا أحد يعرف ما حدث”. –” كانت تحب الكتب أكثر من الأشخاص، وهذا أفهمه، لأن في هذه البلاد الحبيبة لا مكان لامرأة حرة. إن المرأة هنا إمّا ماما أو قحبة!”. –” لم تكن متزوجة غير أن الرجال كلهم كانوا يتوددون اليها”. –” كانت غريبة الأطوار. جمالها الغريب يجعل الطيور تنزل من السماء وتغني لها أغنية. يبدو أن الطيور المهاجرة في الخريف كانت تتوقف للحظة، حوالي العصر، وتتجمع لتؤدي باليهاً رائعاً في السماء، أمام مكتبتها بالضبط، وكانت هي تخرج وتنظر اليها متأثرة، فقد كانت تعرف بأنها جاءت من أجلها”. –” مع ذلك هذه المرأة ذات الحساسية العالية. هذه المخلوقة الساحرة عملت عملاً وحشياً”. –” كنت أحب عينيها الرماديتين، وبشرتها البيضاء، الشفافة، وشعرها الأسود... غير أني لم أكن أجرؤ على الاقتراب منها. كنت آتي إلى المكتبة وأشتري كتباً لا أقرأها”. –” لكن كيف حدث هذا؟ من يستطيع أن يروي لي ما حصل؟”. –” أنت الوحيد غير المطلع على الأحداث، وكل الصحافة تتحدث عنها: الآنسة فاتحة قتلت حبيبها”. –” هذا ليس حبيبها”. –” كان هذا جاراً لها وأراد الزواج منها. كان يعمل في مصرف التجارة والاقتصاد، كان رجلاً وسيماً”. –” كيف مات؟”. –” وجدوا جثته مختنقاً تحت آلاف الكتب!”. –” كتب جديدة أم مستعملة؟ كتب فلسفة أم روايات؟”. –” ما الذي يهم، الرجل مات تحت ثقل الثقافة”. –” لماذا قتلته؟”. –” كيف مات؟”. –” لا أحد يمكنه معرفة ما الذي يجرى بين شخصين، هذا لغز”.          


* TAHAR BEN JELLOUN,  Amours

 sorcières, Nouvelles.