انبعاث التشخيصي من التجريدي في تجربة عبد العزيز الغراز
عز الدين بوركة
تخلص الفنان المغربي عبد العزيز الغراز من حاجزي الموضوع والمعنى أو الفكرة السابقيْن للعمل الفني، واتجه لتحرير أعماله الصباغية التشكيلية من كل القوالب، مترحلا نحو فضاءات عميقة يقوده إليها حس اكتشاف اللامُبصَر والعصي على التعبير عينيا وتشخيصيا (بشكل واقعي لا يروم محاورة الأعماق).. سنده في ذلك اللاوعيُ والمخزونُ المعرفي والفكري والحسُّ الجمالي والجانب الروحي. مجردا اللوحة من كل إحالة إلى واقع معطى سلفا، في مجموعة من أعماله الأولى، قبل أن يرتحل إلى تجريب توليف بصري شبه- تشخيصي. إذ في التجريد لا يخشى الفنان من إخراج دواخله وروحه ومكنونات ذاكرته إلى الوجود، من دون أن يتكلف في ترتيبها أو تنميقها أو جعلها ذات غاية ورسالة وهدف. لذا فقد فتح التجريد الفن على مجاهل عديدة، وحرر من ناحية أخرى الفنان والمتلقي، الأول في التدفق مثلما يشاء ويحس، والثاني وفق ما يمكنه من أن يؤوّل ويفهم.
“أنا” الداخل
يحاول الغراز بما استطاع من دربة الصباغة تمييز اللون - بمنحه المياحة الفضلى، من دون الارتهان لألعاب اللطخات- والحفر عميقا في متن اللوحة، جاعلا من السطح عمقا.. وأن يخرج غانما بما يحق لي أن أسميه بـ”نص شعري صباغي”، إذ كل عمل لديه هو بيت شعري أو قصيدة شذرية تنعم بسحر الألوان وتراكبها في غنائية تجريدية عمادها الإبهار، لهذا يستند بشكل خاص إلى الألوان المتكاملة التي تزدهر في مساحة صباغية تبرز ما يقارب مشاهد طبيعية مجردة (paysages abstraits).
يكتب الفنان في تجربته بشكل أعم، صباغيا، للعين انطلاقا من تنظيم فوضى اللون عبر تدرجاته وتناغمه، وكذلك عبر ما يحدثه من توازنات تستند إلى استدراج أسندة غير القماش في ما بينها، من خلال تقنية الإلصاق (الماروفلاج) والكولاج، مما يعطي للعمل المجرد لديه بكل ما يمتنع عنه من تشخيص، نوعا من العمق الذي يأخذ المتلقي إلى الغوص عميقا في المخيّلة، ليسمح له بكل إمكانيات التأويل خارج مدونة المتعارف عليه والسائد. إذ لا يهتم هذا الفنان بأي تمثيل ممكن أو بحث عن إبراز “شيء جميل” بلغة الكلاسيكيين أو حتى بعض الحداثيّين، بل بالتعبير عن الحالة البشرية الداخلية التي تتسم بالصفاء، تلك الحالة الهشة والمفرطة في هشاشتها.
تعمل لوحات الغراز على تشكيل انطباعات الكائن باللون في رهافة تبحث عن منبع الضوء، ذلك الشعاع العميق الذي يغذي “الروح” وينعش “النفس”، فهو يميل إلى القول بأن الأصل في الإنسان “الخير” لا “الشر”؛ لهذا يتخذ من صفاء الألوان ونصاعتها وسيلة لـ”خلق” العالم البصري الذي يُعبّر عن الداخل. وهو ما توّج بسلسلة من الأعمال الصباغية التجريدية، ومن ثم شبه - تجريدية أو تسعى لخلق فضاء توليفي بين المجرد والمشخص. وهي أعمال تحول الفضاء المجرد إلى إحالات بصرية تتصل بمشهدية طبيعية مفتوحة على كل الاحتمالات، مما يرُبك عين المتلقي، ويجعله في حيرة جمالية بين المجرد والمشهدي.. من دون أن يقدم الفنان أي دلالات قابلة للتأويل السريع أو التفكيك البسيط، وهو ما يجعلنا ننفتح على إشكاليات الغامض-الواضح والسهل الممتنع، وسايكولوجيا الأعماق المرتبطة بمحاولة فهم العالم بشكل مجرد، متبعا إيقاعات اللون وإيقاعات موسيقية احتفالية تتناغم وتتكامل مع المساحات اللونية.
سايكولوجيا الأعماق
ما يشدنا كثيرا إلى أعمال الغراز الصباغية هو إخلاصه شبه المستمر للون وضرباته الكثيفة، ومساحاته الحرة، إذ يتمتع اللون عنده عموما بمعنى إيجابي: التفكير، الذكاء، الثقة، الدفء، الأحلام، الهدنة، الهدوء، الصفاء، النضارة، الولاء، الحكمة والحرية، ملغيا أي قتامة وسوداوية من مساحة عمله الصباغي.
هذا دونما تنازل من الفنان عن لونه المفضل، في تبايناته المتعددة: الأزرق، الذي يعدّ أكثر من كونه لونا.. إنه أفق العين وما تتطلع إليه باستمرار. انعكاس السماء والبحر في الذهن، بكل ما يحملانه من حمولات تتعلق بالامتداد والعمق والتطلع للأفق المستحيل. إذ يثير الأزرق النقاء والبحث عن الكمال، وهو أيضًا رمز الهدوء والتأمل والإبداع. ومن هنا يمكننا أن نفكّ بعض دلالات لوحات هذا الفنان، التي لا تقدم نفسها بالشكل المباشر إلى مشرحة التأويل.
يتكئ عمل الغراز على كروماتيكية متعددة، وينفتح على احتمالات قرائية، تنطلق من التجريدي وتقترب من المشخص من دون أن تشتغل بآلياته بالشكل المطلق.. حيث لا يهرب الغراز من التشخيص، بل قاده بحثه إلى التجريد في غنائيته المبهرة والصافية، بكل ما يتيحه له ذلك من إمكانية استغلال حدود المادة التصويرية بكل تعدّدها (الصباغة، الأصباغ، اللون، الورق، القماش، الخشب…)، من خلال تنظيمها وفق إيقاع شعري تلعب فيه العفوية، التي لا تستكين ولا تهدأ، الدور الدافع للإبداع، باستحضار كل ما رسخ أو تعرض للمحو في الذاكرة؛ ذاكرة الفنان الطفل، وبالخصوص علاقته بالأم، هذه المرأة التي علمته الفن والإحساس به، وهو طفل.
غير أنه ويا للمفارقة! سيقوده الفن إلى “الثورة” على ما رأى أمه تصنعه، وهي تُطرّز تلك الصور الحيوانية، إلى أن يتخلى عن كل شكل مشخص، وكأنه يعيد محو الذاكرة البصرية لديه ويُشكلها تجريديا من جديد. لكن لا قدرة لنا على الهروب من الذاكرة، فالماضي يطاردنا أينما حللنا. فـ”نحن ذاكرتنا”.
و”لا يمكن أن نفصل بين الذاكرة والمتخيّل” (الفني في هذه الحالة) بتعبير باشلار، إذ للأمر علاقة بما يُسميه بـ”سايكولوجيا الأعماق”، أو داخل الداخل إن أردنا أن نعرج على أعمال الغراز وهو يحاول مطاردة الضوء الوامض في أعماق الذاكرة.
من البياض إلى اللون: بين المجرد والمشخص
يقول المؤرخ الفني الفرنسي دانييل أراس وهو يتحدث عن الفن، إن هذا الأخير سيظل مهما وقع عليه من تغيرات “تعبيرا عن الروحي”، أي تعبيرا عن داخل الداخل الإنساني، فلا يمكن إحداث أي قطيعة مهما كانت بين الفن والكائن، إذ إن الفن هو صنيع إنسانيّ وميزة تطورية خاصة به، مكنته من أن يُعبّر عما يخالجه وأن يصرخ عبره بأنه “موجود” هنا والآن. تاركا أثرا له على جدران الكهوف؛ إنه بذلك الفعل صنع لنفسه “ذاكرة”.
هنا بالتحديد تكمن “هشاشة الداخل”، التي يجسدها الغراز باللون “الهش”، في حضور لجل تدرجاته نحو البياض/ المحو، وهو يطارد منبع الضوء، ذلك الوميض الذي يشعل نيران الذاكرة فينا، ويوقظنا لاستحضار الماضي، بوصفه أثرا يصعب زواله مهما تعرض للمحو. وتتولد الذاكرة أيضا من خلال أهازيج وإيقاعات لونية وموسيقية احتفالية تبرز من خلال تلك الإضافات شبه-التشخيصية التي اعتمدها الغراز في لوحاته الأخيرة.. نلحظ شخصية تعزف على الدف في الجنب العلوي من إحدى لوحاته ، وهي تنبع من عمق الألوان وتتماهى إيقاعيا معها. بينما تتضح لنا يد عروسين في جانب آخر من لوحة أخرى، في بعد احتفالي بالحياة وأفراحها..
بالإضافة إلى ذلك يوازن الفنان بين الضربات الصباغية في إيقاع شعري، يتسم بالتدرج من الحدة إلى الهدوء، من الفوضى إلى الصفاء. مما يجعل العمل الفني لديه يتمتع بنوع من التراكب الصباغي والتداخل اللوني، القائم على اشتغال مستمر على المسطحات اللونية بعفوية ودقة في الآن نفسه، فلا يستعجل الغراز لوحته إذ يمنحها الوقت الكامل حتى تخرج من عالم البياض إلى عالم اللون والنظر، وفي الوقت ذاته لا يمنحها أي معنى محدد ومتاح ببساطة، إذ إن الاشتغال الفني بالنسبة إليه يستند إلى ثلاثية الفنان والعمل والمتلقي، وهذه الثلاثية هي التي تصنع ما نسميه “فنا”.
هذا واستندت تجربته الأخيرة التي أقامها بمدينة الرباط، إلى ذلك اللعب المرح باللون بين المشخص والمجرد، مخرجا شخوصا من تخوم الألوان ومن معترك التداخلات الصباغية التي تنتظم ضمن جغرافيات مستقلة، ولكنها في الوقت ذاته تتواشج لتخلق فضاء نسيجيا واحدا.. ولا يروم الغراز رسم شخوصه في إفراط واقعي أو عبر واقعية تبتغي المحاكاة، بل يتبع نداء الأعماق وإيقاع الألوان.
بين الحلم والواقع
تتسم أعمال عبد العزيز الغراز بالتالي بتداخل واضح بين التجريد والتشخيص أو ما يقاربه تجريديا، حيث يسعى الفنان إلى مزج الألوان والأنسجة لإنشاء تراكيب مرئية تجذب العين وتستدعي استجابات جمالية وفكرية. تتميز لوحاته باستخدام ألوان زاهية وأخرى هادئة، بالإضافة إلى ضربات فرشاة تمتد وتندمج على القماش، مما يعطي انطباعاً بالحركة والسيولة، إذ تتداخل في أعماله الأخيرة تجريد الألوان مع لمحات تشخيصية لوجه أو شخصية غير واضحة المعالم. نجد في لوحاته شبه التشخيصية ملمحا شبه شفاف، متداخلا مع الألوان، مما يعطي انطباعاً بأنها جزء من المنظر الطبيعي أو حلم يظهر ويختفي في الخلفية، حيث تظهر ملامح لشخصيات إنسانية، لكنها غير واضحة، وكأنها محجوبة أو مطموسة تحت طبقات من اللون. قد يكون هذا تلميحاً إلى فكرة الإنسان الضائع في العالم المعاصر أو إلى الروحانية والشفافية التي تطغى على الجسد المادي.
يبدو أن الفنان لا يسعى إلى تقديم أشكال واضحة ومحددة، بل إلى تقديم إحساس بالغموض والعمق الروحي. يمكن قراءة لوحاته كاستعارات للطبيعة، والذاكرة، والإنسان، ففي حين يعكس التجريد في أعماله تأملاً في العالم الداخلي للفنان، فإن اللمحات التشخيصية تُشير إلى الأبعاد الإنسانية، محاولاً بذلك تحقيق نوع من التوازن بين الفوضى والانسجام، وبين الحلم والواقع..