محمد طهمازي
“في عالم كل ما فيه موضوع لمرور الزمن، وحده الفن هو الموضوع الذي أرهق الزمن و لم يهزمه بعد”.
أندريه مالرو
إنَّ الفن، وأتحدث عن التشكيلي بالتحديد، الذي أرهق الزمن وفق تعبير اندريه مالرو الفيلسوف والروائي الفرنسي، الزمن هو جدليَّة علميَّة وإنسانيَّة بحد ذاتها، في طريقه إلى إيضاح حقيقة أنه ليس مرتبطاً بالزمن الذي يعيش الإنسان داخله بل هو مرتبطٌ بالإنسان نفسه لأنَّه، وفق عودة سريعة إلى الماضي الإنساني وعلاقته بالفن، سنجد أنَّه خرج إلى الوجود بفعلٍ إنساني بحت، فعل جاء استجابة لنزعات ونزوات داخليَّة لم تستطع النظريات الاستقرار على تحليلٍ واحدٍ وثابتٍ لها، وبالتالي فالإنسان هو من يمتلك أسرار الفن برغم كونه يجهلها لكنها تنبعُ منه كما هو الحال مع الدين.. وأنت حينما تكون مصدر الشيء فبإمكانك أنْ تتحكمَ بمساره ووجوده وهو ما يحصل اليوم في نوعٍ من التحدي لمالرو وهو في الحقيقة عمليَّة انتحار للذات الإنسانيَّة عبر تجريدها من جوهرها السحري وهو ما يؤكد عليه مالرو من أنَّ العمق السحري للفن يمدُّ جذوره إلى الأبدي والروحي، والمقدرة الاستثنائيَّة على النفاذ من أسر الزمان والمكان.
إنَّ هذا التحدي جاء بعد مساحة زمنيَّة كبيرة من الفوضى العفويَّة والمقصودة التي ألقي فيها الفن بشكلٍ قدري، لتبدأ مرحلة جديدة هي في حقيقتها أقرب إلى التدمير منها إلى الفوضى وهو ما يسمى اليوم بالفن المستند إلى الذكاء الاصطناعي وهو عمليَّة اجترار لخزين الصور واللوحات عبر تقنيات التعرف والدمج وإعادة الصياغة التي تقوم بها تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتكرر مرحلة تغييب العنصر البشري عن الصناعة لتكون هذه المرة من حصة الفن.
لقد تمثلت حالة الفوضى الحداثويَّة بعمليَّة خلط الحابل بالنابل، الفنان وغير الفنان، العمل الفني وغير الفني، لتأتي هذه المرة مرحلة إشاعة العبث باسم الفن لكل من يمسك بيديه جهازاً ذكياً لتمتد مساحة اللاعبين في الميدان من آلاف الى مئات الملايين من البشر الذين يتلبسون ثياب الفنانين في نوعٍ من الحيونة الجمعيَّة كما أسميها ويسميها علم الاجتماع والتي قد تمَّ تحفيزها كما سبق وتمَّ تحفيز نزعة العلم بكل شيء من الجهال بكل شيء فصار الكل ينشر في طول مواقع التواصل الاجتماعي وعرضها وعمت السرقات وانتحال الصفات. يُعرَّف الانتحال (Plagiarism) بأنّه استيلاءُ شخصٍ ما على أفكار شخصٍ آخر أو أعماله أو نصوصه المكتوبة أو بياناته أو أسلوبه اللغويّ أو الفني أو أيّ عملٍ إبداعيٍّ آخر واستخدامه من دون تحديد مصدرِ العمل الأصلي أو مؤلفه أو الإشارة الصحيحة إليه في ذلك؛ بقصد نسبِ تلك الأعمال وتقديمها بوصفها ملكيَّة خاصّة له جزئيًّا أو كليًّا.
الانتحال هو لعبة شيطانيَّة لو استعرنا التعبير الديني المستند على مبدأ الإغراء والمؤامرة اللذين يقومان على استغلال الرغبات النائمة وعقد النقص التي تبحث عن الفرصة المناسبة لتعبر عن وجودها كحب الظهور بصورة الفنان، المستند لحالة الحسد والغيرة من الفنانين، كنوعٍ من خداع الآخرين والسطو على نتاجات وبراعة الغير كونه لا يمتلك تلك البراعة ليقدم تلك النتاجات، وهذا ما تلعب على وتره برامج الذكاء الاصطناعي كما سبقتها الصحف والمجلات التي تنشر الغث من أعمال لا ترقى أنْ تكون فنيَّة ترافقها كتابات المطبلين لها.
إنَّ الفن سفينة عملاقة قادمة من أغوار الوجود الإنساني في هذا الكون ومن أعماق لاوعي الإنسان، خلقت روح كيانه المعرفي الذي قدم أجمل وجوه الخلاص، يقول نيتشه “الفن علاج شأنه أنْ يشفي من فرط المعرفة”.. هذه السفينة قاومت كل عواصف الزمن وتقلبات العصور وأوبئة الحضارات، ركبها ويركبها الكثيرون وما لبثت تبصق أغلبهم الى أمواج النسيان، واليوم تحالفت على نخرها أفواج من الجرذان البشريَّة وتلك المصطنعة الذكاء في محاولة لإغراق آخر معنى صامد لوجود الإنسان، فهل ستنجح؟!