العقبات المعرفيَّة والمجتمعيَّة في وجه المواطنيَّة

ثقافة 2024/12/04
...

محمَّدحسين الرفاعي




 أن نفهم ذاتَ أنفسنا العميقة على أننا كائنات عالَميَّة، وأننا مواطنون في العالَم، هو ذا الفكرة المركزية في المواطنية، على نحو عالَمي. وأن نعي ذاتنا في أفق مجتمع متعدد ومختلف ومتنوع، هي ذي المواطنيَّة، وقد قامت على مفاهيم العدالة والمساواة والحرية التي تسندها القوانين والتشريعات في الدولة. في هذا السَّبيل، يظهر تناقض بنيوي يُبيَّن نفسه ضمن صراع قطبي الدولة والمجتمع. من جهة ضرورة بناء الدولة الحديثة، ومن جهةٍ أخرى اِستحالة بناء الدولة الحديثة من دون وجود مجتمع ديموقراطي حديث. فما العمل؟ وكيف يمكن الخروج من هذا التناقض التاريخي- المجتمعيّ العامّ؟


[II]

ضمن إطار التوظيف المجتمعيّ- التاريخي لفكرة الدولة، لا نعثر إلاَّ على ضروب تلفيق وتوفيق بين نظريَّات وأفكار وتصوُّرات تراثيَّة- إسلامية وأخرى عالَميَّة حديثة. وفي أفضل الأحوال، نتعثر بشعارات علمانية- ليبرالية تترجم، وتُعرِّب، في المكان والزمان، مجموعة من الأفكار والنظريات والتصورات والاِفتراضات التي كانت نتيجة لصيرورة طويلة في الثقافة والاِقتصاد والسياسة، بعامَّةٍ، وفي الدِّين والمعرفة الدينية، والإنتاج ووسائل الإنتاج، والتوزيع وأساليب توزيع الثروة الوطنية، والشرعية المجتمعيَّة للسطة، والمشروعية القانونية لها، بخاصَّةٍ. 


[III]

وإذا أردنا الظفر بفهم التناقض، وفتح إمكانات بناء فرضيات تفسيريَّةٍ فاهِمَة دالة لما يمكن أن يُسهم في تقديم مقترحات حل، أو بدائل اِنتقالية، نكون أمام ضرب من ضروب مجاملة العقل والفكر والواقع والتاريخ، في الفكر العربيّ المعاصر. تلك المجاملة التي تتسم على الدوام بمراعاة الضمير المجتمعيّ- الديني- والأخلاقي للشعوب. وإذا أمعنا النَّظر في القوالب الذهنية التي تُنتج اِستحالة الديموقراطية، واِستحالة الدولة، واِستحالة الفكر، واِستحالة الواقع، التي تنتج عن عقول مصابة باللوثة الفرانكوفونية، نجد الأفق أمامنا مغلقًا على نحو رهيب. 

[IV]

ما العمل؟ العمل هو البحث في الإمكان. إنَّه إمكان أن نكون على نحو مختلف جديد؛ في إطار البحث عن سبل التغيُّر المجتمعيّ الجذرية. وفي أوَّل بدءٍ، يمكن أن نشير إلى التخصيص البنيوي القائم بالأساس على تفكيك بُنى المعرفة، والوعي، والآيديولوجيا السائدة، وصولاً إلى الهُويَّة التي تدفع بالمجتمعات والجماعات إلى الاِنغلاق على ذاتِ نفسها العميقة. في هذه الطريق ثَمَّةَ عقبات مجتمعيَّة ثلاث، تفتح ثلاثة اِحتمالات موضوعيَّة مجتمعيَّة: 

العقبة المجتمعيَّة الأولى: شبكة العلاقات السياسية المعقدة للغاية التي من شأن رجال التسلط والفساد والإفساد، التي تستمد قوتها ومبرر وجودها من توظيف الرساميل الدينية والثقافية في خدمة مصالحها الخاصَّة؛ التي، متى فُكِّكَت هذه الشبكة، يمكننا أن نجد، مرة أخرى سيادة سلطة الوطنية، متجسِّدة على نحو سلطة الدولة، على الجميع.   

العقبة الثَّانية: المشاريع بعد- الوطنية، أو قَبلَ الوطنية، التي تجعل من الأوطان ساحات حرب، وتجارب حرب؛ وهي تلك المشاريع ما بعد الهُوية الوطنية، أو ما قبلها حتَّى، التي تريد في كلِّ مرَّةٍ أن تنصهر الهُويَّة الوطنية في هويَّة مذهبية أو طائفية، بتوسُّط مشاريع إقليمية أو مناطقية. تفكيك هذه المشاريع يُسهم على نحو واقعي- موضوعي في ولادة نوعين من الممارسات السياسية: الأولى ممارسة الفعل السياسي القائم على شرعية مجتمعيَّة وطنية، مقبولة من قِبَلِ مجتمع متعدد ومتنوع ومختلف في مكوِّناته الآيديولوجيَّة والدينية والثقافية بعامَّةٍ، والثانية هي تلك الممارسات القائمة على براغماتية وطنية تعي منذ أوَّل بدئِها أسبقية المصلحة العليا على أيَّة مصلحة دينية أو آيديولوجية أو مذهبية أو طائفية أخرى. 

العقبة الثَّالثة: اِحتكار الهُويَّة، والهُويات، وفهمها، بواسطة رجال الدِّين الذين يُستَخدَمونَ، ويُوَظَّفونَ سياسيَّاً. أي أولئك الرجال الذين يحترفون حرفة رجل الدِّين، ويمارسون شتى أنواع الممارسات، التي تتغلف بالدين والتديُّن، وفي الغالب هي تتناقض وروح الدِّين. تستمد عمليَّة تفكيك هذه الممارسات أهميَّتها وضرورتها من ضربين إثنين من ضروب إمكان فهم الهُويَّة: أولاً تخليص الهُويَّة من إنهاك الدِّين والتديُّن لها، إلى فتحها نحو الآخر المختلف؛ والقبول به ضمن تسويغات تنتجها أفعال الهويات في العلاقة فيما بينها؛ وثانيًا: وعي التمييز بين وظيفة الدِّين على الصعيد الفردي باِعتبار أنَّه حقل العلاقة مع الميتافيزيقي بعامَّةٍ، وبين وعي ضرورة تقليص دوره في الفضاء العمومي. 


[V]

وكذلك ثَمَّةَ عقبات معرفية ثلاث: تتمثَّل العقبة المعرفيَّة الأولى باِختزال الفكر السياسي الحديث بالفكر الليبرالي منه؛ وهذا ضرب من تناول كاريكاتوري للفلسفة السياسية، والعلم بالمجتمع والإنسان وموضوعاته؛ والعقبة الثَّانية تشتمل على معنى ممارسة الحُرِّيَّة على نحو التفلُّت والتوهُّم بأنَّها تعبِّر عن الحُرِّيَّة الحديثة؛ والعقبة الثَّالثة تتجسد بأفعال مجتمعيَّة- سياسية تقوم على الوعي بضرورة التغيير، وتجهل آليات وسبل وأساليب التغيير المجتمعيّ. ولذا، إنَّ اللَّحظة، في الزمان المجتمعيّ الذي لنا، وبعيداً عن كل أوهام الحتمية التاريخيَّة، قد تتوفَّر على إمكان تحرير الأوطان من المواطنين، وجعلها مكاناً يُضبط أو يُتحكم به بواسطة دولة دين- رجال دين منغلقين عن العالَم؛ أي تحرير الوطن من الوطنيين، وتحييد المواطنين؛ وجعله دولة دينية، على هذا النحو أو ذاك، ضمن تحالف الكنيسة والمسجد، واِتفاق بين هذه الجهة أو تلك، ومصادرة الدولة لصالح الدولة الدينية، أو تلك التي تقوم على تشريعات دينية... وهكذا دواليك. وذلك إمَّا بالعنف، أو التهديد بممارسته، أو بواسطة الديموقراطية وقد أُخذت وظيفيَّاً: أعني ممارسة الفعل الديموقراطي في صناديق الاِقتراع فحسبُ؛ واِختزالها بذلك، ولو كان ذلك بفتوى. أي ضمن الوظيفة التي تؤديها في خدمة الإسلام السياسي، بواسطة الفكرة الأكثر مراوغة للديموقراطية ذاتها أي فكرة الديموقراطية الدينية. 


[VI]

ولكن ما هي الثروة المجتمعيَّة الأصليَّة من أجل المواطنية في المجتمعات العربيَّة بعامَّةٍ، وفي لبنان والعراق بخاصَّةٍ؟ وعلى أيِّ نحو يمكننا أن نعي ضرورتها اليوم؟ 

إنَّ ذلك يقوم على الوعي بالآتي، بِقُوَّةٍ وعمق: إنَّني بوصفي مواطناً لستُ أُختَزَلُ بهُويَّةٍ، بل ذاتاً أكون؛ أو لا أكون من جذري. بهذه المعادلة البسيطة، صحبة الوعي بالأسس الديموقراطية والمواطنية، المجتمعيَّة قبلَ السياسية؛ يمكننا أن نفتح أفق المستقبل على نحو حديث مختلف جديد كُلِّيَّاً. إنَّنا مواطنون ذاتيون بِقَدْر ما نكون مجتمعيون، عالميَّاً، أي كوزموبوليتانياً، وقد أصبحت المواطنية المبدأَ الترانسندنتالي، بحقل الفهم الذي من شأن إيمانوئيل كانت، للوجود في العالَم، والإنوجاد، بوصفه فعلاً مجتمعيَّاً، قد صار، وحدث. إنَّ الصيرورة هذه، والحُدْثان هذا، إنَّما هما اللذان قد يؤسسا لحقل الكينونة التي من شأن ذواتنا من جهة كوننا إمكانات عالَميَّة. إنَّ الثروة المجتمعيَّة الأصليَّة، الأساسيَّة التي نحن، كلنا، ملزمون بالدفاع عنها، ويجب الدفاع عنها بالمجتمعيِّ وبالفرديِّ، إنَّما هي تتمثَّل في اِختلافنا، وتعددنا، وتنوعنا، والإمكانات الهائلة التي في حوزتنا، في أن ندافع عن هذه الحيثيات الوجودية، وأن نحافظ عليها، بقدر ما نريد أن نحافظ على المستقبل، وأن ندافع عنه، في مواجهة عنف الماضي، والهويات المغلقة. حينما نسحب تساؤل المواطنية، إلى هذه الطريق، إلى المساحة الأكثر خطراً على وجودنا المستقل، أي الواقع المجتمعيّ العربيّ وقد أصبح شظايا، يمكننا أن نقول، وبناء على ما قلتُ، نحن في هذا الواقع الذي يشكو من تخلُّعٍ بنيوي عميق، كلنا تغييريُّون من حيثُ إنَّنا لا نحبِّذ المشاركة في الزيف التاريخي. كلنا نخدم ثورة البروليتاريا، وقد أصبحنا بروليتاريا بعد تفجير الذَّات بالهوية فينا. سواءً كنا في خدمة الثورة مباشرةً، أو في خدمة الثروة على نحو غير مباشر. وفي هذا المضمار، علينا أن نقول أن الثورة أولها ثورة في المعرفة، والوعي، والآيديولوجيا السائدة... إنَّها ثورة في صميم الهُويَّة وقد صارت جزيئات متناثرة.