بتروس فان شندل: صناعة الفضاءات اللونيَّة

ثقافة 2024/12/04
...


 حسن جوان

تعدّ لوحات الفنان الهولندي- البلجيكي بتروس فان شندل (1806 - 1870)، درساً بليغاً في معالجة الضوء وبسط تأثيراته في فضاء اللوحة.

وقد اختار لنفسه منطقة اشتغال متفردة بين مجايليه من رسامي القرن التاسع عشر الميلادي ليتحدى أحد أكثر التقنيات صعوبة ومعالجة وهي منطقة الاشتغال بشكل شبه دائم في موضوعات المناظر الليلية والمسائية المعتمدة في بؤرتها على إضاءة الشموع أو اضاءة القمر الناعمة المتدرجة. لقد ابتدأ حياته العملية كرسام بورتريه بعد أن التحق في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في أنتويرب. حيث درس هناك من عام 1822 حتى 1828 مع رسام التاريخ ماتيوس إجانتيوس فان بري، فكان إن حصل عند تخرجه، على الوسام الذهبي "للرسم المنظوري"،  وهو درس تمثيل الأجسام المرئية على سطوح منبسطة (اللوحة)، لا كما هي في الواقع ولكن كما تبدو لعين الناظر في وضع معين وعلى بعد معين من خلال زوايا رؤية (منظورات أو مساقط) مختلفة.


بناء اللوحة وخصائصها

تمتاز تكوينات شندل ببؤرة مركزية جاذبة وبناء عمودي يعتمد على الشخصية الرئيسية أو الثيمة الأساس التي غالباً ما تكون مادة انعكاس الضوء المتدرج بعناية فائقة على جوانبها. وعادة ما يحظى مصدر الضوء - الشمعة أو القنديل- أهمية بالغة تكاد تتفوق على الشخصية المصاحبة أو عدد الشخصيات. تكمن خلف هذه الخصيصة تقنيات صنعت هوية الفنان وتمايزه عن سائر فناني عصره، حيث أن هذه الفرادة طبعت أسلوبه الرائد في توزيع الضوء بطريقة تفوق "الكاميرا" الحديثة، بل تتفوق عليها من حيث التأثير ودراسة الانعكاسات وتوزيعها بأحاسيس تضفي على المناخ العام للعمل الفني طابعاً عاطفياً غامراً وإحساسا رومانسياً ناعماً يفوق في تأثيره موضوع اللوحة نفسها أو البناء الحركي فيها. وفي حين تثبت الشخصيات في بؤرة العمل، تتحرك شخصيات أخرى في خلفية اللوحة مغمورة في جو ضبابي يعزز بدوره الطابع المنظوري اللوني المتدرج الذي يحكم الإخراج العام للوحة. إذاً نحن أمام عمل متدفق يراهن في الأساس على معالجة الضوء بمهارة عالية ويبني وحدات العمل الفني على أساس فعل الضوء وترسيخ شخصيته الحاكمة على فضاء العمل.


موضوعات أثيرة

تنوعت ثيمات لوحات الفنان وموضوعاته في تناولاتها خلال مسيرته الفنية، لكن موضوعات الحياة اليومية للبسطاء والفلاحين والأسواق العامة أخذت مساحة كبيرة ومؤثرة، لاسيما أن أعماله الأكثر شهرة وذيوعا هي لوحات تتضمن بائعة سمك في السوق وأخرى لبائعة خضار وهكذا. وهو بهذا يكون خرج على المألوف في عصره مرة أخرى حيث كانت الموضوعات الصالونية والبرجوازية تسود أغلب اتجاهات الفن آنذاك. 

ويعتبر هذا التوجه نحو الفقراء والبسطاء من الباعة اليوميين الذين يتحلّقون مبتسمين حول الشموع والمواقد في الليالي الاوروبية الباردة يعرضون بضائعهم التي تبدو قليلة وتدل على قناعاتهم المحدودة للحصول على قوت يومهم، تعتبر إشارة مضافة إلى تعاطف شندل نفسه في توثيق وتخليد هذه الطبقة الغائبة في معظم أعمال الفنانين الكبار في 

عصره.


تأثيره في الفنون المعاصرة

اذا كان رامبرانت سيد التأثير المطلق في صناعة الضوء عبر تاريخ الفنّ وتأثر به المسرحيون بشكل خاص والسينمائيون بشكل عام، فإن بتروس فان شندل يعد ثاني أكبر تأثير من حيث صناعة الفضاءات اللونية والفلاتر الضوئية في السينما على وجه الخصوص.  فالضوء الساطع والمركز في لوحات رامبرانت لا نجده في أعمال شندل، بل نجد مكانه تدرجات دقيقة للغاية لانتشار الضوء وانعكاسه بطريقة رومانسية هادئة. فقوة التعبير هناك تقابله نعومة التعبير 

هنا.


إسهامات علمية

جدير بالإشارة أنه بالإضافة لفنه، كان بتروس فان شندل مهتماً بميكانيكا المحركات البخارية، وفي العام 1841، اخترع جهازاً لتحسين نصل السفن البخارية. كما اشتغل على ابتكار اقتراحات لتحسين التوازن الأفقي لعربات السكك الحديدية وقام بتقديم دراسات عملية في حقل استصلاح الأراضي البور الشاسعة لتحويلها إلى أرض منتجة وغير ذلك من الاسهامات العلمية والمقترحات التطويرية في مختلف الجوانب.