سامر المشعل
يتبادر إلى ذهن البعض أن الغناء الشعبي لا يرتقي إلى الفن الراقي والأكاديمي، ومن يمتهن هذا اللون من الغناء هم ذو حظ قليل من الثقافة، والغناء الشعبي خطاب ساذج بعيد عن الذوق والالتزام الفني، بالنظر لما شاع في الآونة الأخيرة من غناء هابط، تسابق في إطلاقه المغنون الشباب، والغناء الشعبي منه براء، بل هو لا يعد غناء إنما هو تلوث سمعي وذوقي.
ولا بد من وضع الأمور في نصابها وتصحيح مصطلح الغناء الشعبي الذي التبس على البعض، فهو الغناء الذي يعبر عن وجدان وضمير الناس وهو الفن الأقرب لمشاعر وأفكار الشعب بعفوية وصدق وباللهجة المحلية أو المحكية، ومثلما نحتاج إلى القصيدة والمقام نحتاج إلى الغناء الشعبي، ولا يعد غناؤه منقصة، إنما قدمه كبار المغنين العرب والعراقيين مثل أم كلثوم بأغنية "غنيلي شوي شوي"، وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب بأغنية "بلاش تبوسني"، وناظم الغزالي بأغنية "طالعة من بيت أبوها".. والكثير من أغاني فيروز، بل إن أغلب الغناء العراقي هو غناء شعبي في حقيقته.
يتسم الغناء الشعبي بالبساطة وعدم التعقيد بنظم الشعر والصياغات اللحنية، فتستخدم الأبوذية بشكل كبير في الجنوب، والمربع في بغداد، إضافة إلى الدارمي وفنون الكتابة الأخرى. ولو تأملنا الغناء واللغة المستخدمة نجد هناك لغة خطاب عالية في التعبير والصورة الشعرية وفيها الكثير من البلاغة التي تتفوق أحياناً على القصيدة الفصحى باعتراف كبار الشعراء مثل الجواهري وعبد الوهاب البياتي. ولو أخذنا على سبيل المثال الشعر الذي يستخدمه المطرب الريفي داخل حسن نجد هناك الكثير من أبيات الأبوذية التي تتألق بجمال موهبة كاتبها والصور الشعرية التي تكشف عن عمق كاتبها والدلالات الإنسانية والبلاغية والخزين الهائل من المعرفة والمقدرة الفذة في بناء بيت الأبوذية بحيث يعطي في كل بيت معنى مختلفاً يتسق في منح الشعر الرصانة والتنوع بموهبة واضحة المعالم، ولنأخذ أحد الأبيات وهو "وتارا"
لون عينك تصل قلبي وتارا
سيوفك كطعت منه وتارا
تارة اكتم بحسباتي وتارا
يهل دمعي ويورج الناس بيه
ومن خلال هذا البيت نلاحظ عمق موهبة الشاعر في توظيف مفردة "وتارا" ببلاغة شعرية وثقافية باضفاء التنوع بالمعنى والدلالة القريبة من الفصحى وليس من الحسجة المستخدمة بالريف.
أيضاً الغناء الشعبي تنوع على مستوى الموضوعات والمضامين الإنسانية، إذ تناول العديد من مظاهر التخلف الاجتماعي وبعض المواقف السياسية والاقتصادية، مثل المطرب الريفي عبادي العماري في أغنية "فصلية" وما تشكله هذه الظاهرة من إهانة لكرامة وإنسانية المرأة بالريف العراقي آنذاك، كذلك غنى المطرب حضيري أبو عزيز عن "التموين" خلال الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعراق في أربعينيات القرن الماضي، وإعطاء حصة تموينية شحيحة ومذلة، فتطرق لها أبو عزيز بكل شجاعة، معبراً عن حاجات الناس ومعاناتهم. وبذلك فإن الغناء الشعبي له قيمته الفنية والإبداعية المعبرة عن ضمير الشعب بصدق والتزام فني، الأمر الذي جعل هذا الفن يتجدد ويغنى من كبار الفنانين.