حين يصبح الأدب مختبراً

ثقافة 2024/12/08
...

  أمجد نجم الزيدي

تجسد المناهج متعددة التخصصات في الأدب نهجاً ما بعد حداثيا، يعيد صياغة آليات التفاعل مع النصوص الأدبية وفهمها، خاصة في سياق مفاهيم القرن الحادي والعشرين حيث تتلاشى الحدود التقليدية الفاصلة بين الحقول المعرفية المختلفة، من خلال مزج الرؤى المستمدة من فروع معرفية وتخصصات علمية مختلفة، فعلى سبيل المثال، تعمل الحقول المعرفية كعلم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ، وغيرها، على تعميق التحليل النقدي، وتثري القراءات النقدية بأبعاد جديدة، إذ تسهم في بناء جسور بين النصوص الأدبية وسياقاتها المرتبطة بتلك التخصصات، مثل السياقات الاجتماعية والثقافية وغيرها، والتي تعزز من وعينا وإدراكنا للواقع الذي أخذ يميل إلى مزيد من التعقيد بكل الجوانب.


أما إحدى السمات الجوهرية لهذه المناهج هي قدرتها على إضفاء أبعاد جديدة على النصوص الأدبية، من خلال زوايا تحليلية غير مطروقة، أو غير مألوفة سابقا في المناهج الأدبية التقليدية، فالتحليل النفسي، مثلاً، يكشف عن دوافع الشخصيات وآليات اللاوعي لديها، ما يفتح آفاقاً لفهم رموز النص ومعانيه المضمرة، وفي المقابل، يعمق التحليل السوسيولوجي فهمنا للبنى الاجتماعية التي تحكم العلاقات داخل النص، مما يوفر منظوراً كاشفا للبيئة الاجتماعية التي يتفاعل ضمنها العمل الأدبي.

 هذه المناهج، بفضل تكاملها، لا توسع الفهم للنص الأدبي فحسب، بل تضفي على القراءة بعداً جديداً، يكشف عن تنوع وتعدد طبقات الخطاب الأدبي، مما يُرسخ الأدب كحقل معرفي ثري وقادر على إنتاج فهم أكثر تركيباً للعالم المحيط، ومن خلال هذا التفاعل بين مختلف المناهج، يصبح النص الأدبي ليس مجرد انعكاس للواقع، بل مادة حية تتفاعل مع الأبعاد النفسية والاجتماعية والتاريخية.

وتُسهم المقاربات متعددة التخصصات، تجاوزاً لدورها في تعميق الفهم الأدبي، في تقريب النصوص الأدبية من عوالم معرفية متنوعة، ما يعزز من قيمتها النقدية ويضفي على الدراسة الأدبية بعداً تطبيقياً حقيقياً، فقراءة النصوص الأدبية من منظور تاريخي، على سبيل المثال، تعين على كشف الروابط بين الأحداث التاريخية وسياقاتها في النص، مساهمة في تأويل يتجاوز إطار النص؛ ليمتد إلى تأويل أعمق لثقافة تلك الحقبة وفكرها، وبالمثل، يؤدي دمج نظريات مستمدة من علم النفس أو الأنثروبولوجيا إلى تسليط الضوء على جوانب مهمة من التجربة الإنسانية والسلوك البشري كما يصاغ داخل النصوص الأدبية، هذه الروابط العابرة للتخصصات توسع آفاق التحليل النقدي، ما يسمح ببناء فهم أكثر شمولية للأدب في ضوء الرؤى المعرفية المتنوعة التي تساهم في تفكيكه وتفسيره، فإن هذه المناهج تفتح المجال لاستكشاف أبعاد جديدة في الشخصيات والأحداث، مما يعزز من قدرة الأدب على تجسيد الصراع الإنساني والمعاناة والمقاومة عبر سياقات مختلفة، كما أنَّ تبنّي هذه الرؤى المتنوعة في دراسة الأدب لا يعزز فقط من عمق التحليل، بل يمنح القارئ أدوات لفهم أدق وأكثر تفاعلاً للأنماط الثقافية والاجتماعية التي تنتج النصوص الأدبية.

  تقدم المناهج متعددة التخصصات، على مستوى التطبيق العملي فرصاً لتحويل الدراسات الأدبية إلى أدوات تحليل لمجريات الواقع المعاصر، فالتحليل الاجتماعي للنصوص الأدبية يمكن أن يكشف عن بنى التمييز الاجتماعي وأنماط الظلم، ما يعمّق النقاشات حول قضايا العدالة والمساواة الاجتماعية، ويضع الأدب كمنصة تسهم في التحليل الاجتماعي النقدي، إضافة إلى ذلك، يمكن للتحليل النفسي أن يظهر الصراعات الداخلية للشخصيات، مما يساعد على فهم أعمق للوعي الإنساني المعقد الذي يشكل أرضية خصبة لتناول قضايا الهوية والصراع النفسي، وبهذا، يتحول الأدب إلى مرآة تعكس التوترات والصراعات المجتمعية المعاصرة، ليلعب دوره كأداة نقدية تساهم في التغيير الاجتماعي والثقافي.

لا تخلو المناهج متعددة التخصصات من التحديات التي تجابهها؛ إذ يتطلب الإلمام بتنوع المعارف المتكاملة وقتا وجهدا كبيرين، ويواجه أحيانا معارضة من دعاة التحليل الأدبي التقليدي، الذين قد يعتبرون تعدد التخصصات خروجا عن أصول النقد الأدبي، لكن تظل مكاسب هذه المقاربات أوسع وأعمق من العوائق؛ إذ تتيح للقارئ والباحث مسارات جديدة للنظر في النصوص وتقديم تحليلات تتفاعل مع قضايا المجتمع، مما يجعل الأدب حقلا مفتوحا على النقد ويتيح للمقاربات النقدية أن تتكامل؛ لتحقيق فهم أعمق وأكثر شمولا، على الرغم من التحديات التي تواجه هذه المناهج، فقدرتها على تجاوز الحدود المعرفية التقليدية تفتح أمام الباحثين أفقاً جديداً لفهم النصوص الأدبية من زوايا متشابكة ومعقدة، فهذه المقاربات، رغم أنها تتطلب مهارات متعددة ومعرفة واسعة، تقدم أداة قوية لكشف الطبقات العميقة في النصوص، بما في ذلك التأثيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية، التي قد تكون غائبة عن القراءات التقليدية، بالإضافة إلى ذلك، يُسهم التنوع في المناهج في خلق مساحة للتفاعل بين مختلف التوجهات الفكرية، الذي يعزز قدرة الأدب على أن يكون مرآة حية للمجتمع، ويعكس القضايا المعاصرة بشكل أكثر دقة، كما أن هذه المناهج تتيح للباحثين تقديم مقاربات نقدية مرنة وثرية، بعيداً عن القيود التقليدية، التي تُزيد من قدرة الأدب على الاستجابة لمتغيرات الواقع واحتياجات التحليل النقدي المعاصر.

  تستدعي المناهج متعددة التخصصات في الأدب تبني رؤى نقدية شاملة تعيد النظر في النصوص الأدبية وتجدد من آليات استكشاف معانيها، وعلى الرغم من تحديات هذا التوجه، فإن مزايا هذه المقاربات تسهم في الكشف عن الإمكانات الكامنة للأدب، وتجعل منه أداة معرفية تسهم في توسيع مدارك الفكر وتجسير الفجوات بين الأدب والواقع، مما يخلق منظومة نقدية ثرية وعميقة تصلح للنهوض بفهم الأدب وتطبيقاته في المجتمع، إذ إن هذه المقاربات لا تقتصر على تقديم قراءة متجددة للنصوص، بل تساهم في ربط الأدب بقضايا معاصرة، مثل العدالة الاجتماعية والمساواة والهوية. علاوة على ذلك، فإن دمج مفاهيم من مجالات معرفية متعددة يفتح المجال لفهم أوسع وأكثر تفاعلاً للأدب بوصفه مرآة معبرة عن التحولات الاجتماعية والنفسية والثقافية، ومن خلال هذه النظرة المتكاملة، يصبح الأدب أكثر من مجرد مصدر للمتعة الجمالية؛ إذ يتحول إلى أداة حيوية ومؤثرة في تشكيل الوعي الاجتماعي والثقافي.