المظهر الخادع

آراء 2019/06/29
...

حسين الصدر 
- 1 -
لا نذيع سرّاً إذا قلنا:
إنّ المنخدعين بالمظاهر هم الأكثرون، فيما يبقى العارفون الممحصون الأقلين في الناس..
- 2 -
سرعان ما تنطلق الألسنة بالمدح والثناء – من الذين اعتادوا على تسطيح الأمور – على الُمتظاهر بالعبادة والزهادة، مع أنَّ العقل والموضوعيَّة يشيران الى أنَّ العبرة بالجوهر لا بالمظهر، وأنَّ العبادة الحقيقيَّة هي تلك التي تجعل صاحبها عفيفاً شريفاً مُتَوَرِعاً عن سفك الدماء وقتل الأبرياء، مضافاً الى باقي الفصول النقيَّة في مساراته.
- 3 -
والتاريخ – كما هو معلوم- كُتب لصالح الحكّام، ولم يُكتب بأقلام حرّة منضبطة، بعيدة عن حسابات الربح والخسارة الشخصيَّة.
ولنأخذ (عبد المؤمن التلمساني) – صاحب المغرب والاندلس المتوفى سنة 558 مثالاً
جاء في ترجمته:
(كان مَلِكاً عادلاً..،
عظيمَ الهيبة،
عاليَ الهمة،
كثيرَ المحاسن،
متينَ الديانة،
قليلَ المِثْل،
كان يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن العظيم ويصوم الاثنين والخميس ..!!}
ألا ترى كيف كانت قراءة القرآن، وصيام يومين من كل أسبوع سبباً في تلك الأوصاف؟
وجاء في ترجمته أيضاً:
(كان سفّاكا لدماء مَنْ خالَفَه..”
والسؤال الآن:
كيف يجتمع سفك دماء المخالفين له مع متانة الديانة؟ إنَّ قَتْلَ المُخالف لمجرد المخالفة في الرأي – قَتْلٌ للحرية والإنسانيَّة...
ولا يصح أنْ تطلق على قاتل الأحرار - الذين لا يكتمون الناس رأيهم المخالف لرأي السلطان - تلك الصفات المختصة بأولياء الله...
وقد شاعت ظاهرة الانخداع بالمظاهر في (العراق الجديد) الى الحد الذي سمح بِتَمَتُع الذئاب بأرفع الأوصاف
 والألقاب..!!
 
- 4 -
ومع هذا فإننا نجد في سيرة التلمساني المذكور ما لا نجده في سيرة معظم المحترفين السياسيين الذين نجحوا في عمليات الخداع..
جاء في سيرته:
انه سأل أصحابه يوماً مسألة ألقاها عليهم فقالوا:
لا عِلْمَ لنا الاّ ما علّمتَنا، فلم يُنكر عليهم ذلك.
فكتب بعض الزهاد هذين البيتين ووضعهما تحت سجادته وهما:
يا ذا الذي قَهَرَ الانَام بِسيفِهِ
ماذا يضرُكَ أنْ تكون إلاها؟
الفظْ بها فيما لفظَتَ فإنّه 
لم يَبْقَ شيءٌ أنْ تقول سواها 
لقد عزّ على هذا الشاعر الحر الأصيل أنْ يقال للتلمساني (لا علم لنا إلاّ ما علمتنا) كما قالت الملائكة لرب العزّة، فكتب إليه البيتين توبيخاً وتقريعاً وتذكيراً له بحقيقة أمره..
وهنا صحا التلمساني على نفسه وأدرك الخطأ الفادح الذي اجترحه حين بقي ساكتاً دون أنْ يرد على أولئك الذين جعلوه إلها..
وتتبع قائل البيتين حتى وجده فقال له:
أصدقني 
أنت قائل البيتين؟
قال:
أنا هو 
قال:
لِمَ فعلتَ ذلك؟
قال:
قصدتُ إصلاَح دِينكَ،
فدفع اليه ألف دينار
فلم يقبلها”
شذرات الذهب ج5 ص361 
رَفْضُ الشاعر الحرُّ لقبول المال من التلمساني دليلُ صِدْقِه وورعهِ...
إلاّ أنْ محاولة التلمساني إكرام الشاعر مكافأةً له على مع تضمنَتْه من النقد الشديد تُحسب له..!!
وهو بهذا مُغايرٌ لمسلك السلطويين العراقيين الذين يناصبون العداء ويوقعون العقوبات بحقّ كلِّ مَنْ لا يكتم استياءه منهم،
والبون بين الموقفين بعيد للغاية.