قاسم حمزة.. ألف حكاية من الطين

ثقافة 2024/12/11
...

 د.جواد الزيدي

أقام الفنان قاسم حمزة في قاعة الأطرقجي النسخة الثالثة من معرضه الشخصي الموسوم "حكايا الطين والنار"، وضم عشرات الأعمال الخزفية التي تتجاوز في صياغاتها وتقنياتها فضاءات الاشتغال السابقة، فمنها ما ينتمي إلى أُسلوب يمكن تصنيفه إلى تجارب عمل عليها في فترة زمنية محددة من إنجازه الإبداعي، وفي أُخرى يتحرك نحو خلخلة الشكل الظاهري، مع المحافظة في هذا كله على السياق الخزفي المعهود من حيث التقانة وجوهر اللون ودلالته التعبيرية، إلا أنه يتغير ضمن فرضيات الوظيفة، والمادة، والنوع الخزفي الذي يصطفيه عنواناً لمنجزه. فالأطباق والصحون الكبيرة تختلف في بنائيتها عن القطع الخزفية المجردة، أو التي تتمثل على هيئة كرات وحلقات دائرية تتكرر مرات ويحتويها شكل دائري أكبر منها. تتخذ من أحادية اللون المتدرج ودلالته أساساً في تصيرها البصري، فضلاً عن إكتمالها مع دلالة الشكل الدائري الذي يحاصر الأشكال الصغرى، وبهذا يتخذ من معطيات الواقع جوهراً لطبيعة الاشتغال الخزفي وإن بدا شكلاً مجرداً في بنيته النهائية.
في ضوء هذه المعطيات تتسع الرؤية لتشمل تجربة حمزة في مجملها وليس قصدية هذا المعرض فقط، بما يُمكن الإشارة إلى حداثته الذاتية التي تنطلق من البنية ذاتها من دون اللجوء إلى خارجها أو إيجاد مقاربات أُخرى لها، فهو يستند إلى صياغة الخزف وتقنياته، ولكنه يستطيع أن ينطلق من البنية الرئيسة إلى تحليل الأنساق المجاورة والتي تنتمي إلى النوع نفسه، فعندما يوظف الحروفيات والزخارف أو الأشكال الواقعية مثل أشجار النخيل والأزهار، فإنه يعد هذا ليس خروجاً عن النسقية المعتادة، بل هو بحث في مكونات البنية وتفكيكها من الداخل، بما يُفضي الى إضافات نوعية عليها من دون المساس بجوهرها أو سياقها التداولي المألوف في ما يخص تلقي التجربة.
يقدم قاسم حمزة في كل مرة رؤية خاصة ضمن معرض شخصي: (بنى مجردة، أطباق، صحون، تكوينات حروفية، أشكال واقعية، بنى رمزية دائرية ومربعة) وغيرها من الصياغات الشكلية الظاهرية التي تُصبح عنواناً لمعرضه. وفي هذا المعرض حاول جمع المتضايفات الأُسلوبية كلها في تجربة واحدة إنطلاقاً من العنوان الإيحائي الذي ينتمي إليه ويرمز إلى غوايته الأُولى "حكايا الطين والنار" بوصفها حكايات ملونة، تحاول النار أن تجعل من الطين خطاباً بصرياً يمتلك خصوصيته وجماليته التي تحتوي على المبنى الجميل والمعنى الكامن في بنائه المرئي، لتصبح كائنات تتنفس وتحيا معه ومعنا.
يستحضر الصحون مربعة الشكل وهي تحتفي بمفردات الأُطر الزخرفية المجردة أو المسارات الملونة التي تتعالق مع موجودات كونية من خلال انفتاحه على العالم الموضوعي واستجلابه إلى خزفياته الملونة. فالسماوي والأرضي وما بينهما ترتسم على سطح صحن واحد، مستحضراً موضوعاً آخر في صحن آخر. بينما استطاع الاحتفاء بالحرف العربي في مجموعة صحونه الدائرية بتكوينات حروفية من خطوط (الثلث، والديواني، والخطوط القديمة مثل الرقاع والتواقيع) محاولاً التمييز بين تلك المكونات وافتراقها من خلال اللون، بما يخلق تعارضات أو تضادات لونية حادة بين تلك التكوينات المتراكبة، واستثمار بنية الحرف، والنقاط المربعة، وحركات الإعراب وعلامات التزيين، والأشكال الحيوانية المجردة، والزخارف وغيرها من مكونات البنية الحروفية، حيث حاول تقسيم بعض المساحات الى أشكال هندسية دائرية، ومثلثة، ونصف دائرية، وغيرها من الأشكال، إذ يحتوي كل شكل هندسي بعضاً من هذه التكوينات من أجل أن يخلق أنساقاً متعددة تتشاكل في ما بينها، بما ينتج خطاباً جمالياً يكتمل بالرمزية اللونية والحروفية، أو رمزية البنية الكلية وشموليتها، حين تجتمع القطع الخزفية ضمن الخطاب الواحد.
وفي توجهه الأخير حاول اللجوء إلى أشكال دائرية وبيضوية يعدها أساساً في تصير منجزه الخزفي محاولاً اللعب الحر عليها في ضوء تشظي القطعة إلى شرائح تنتهي عند نقطة مركزية علوية، وأحياناً يلجأ إلى كتل تستند إلى قاعدة مستطيلة، لكنها عشوائية وغير منتظمة من الأعلى، فوقها أشكال شفافة تشبه السوائل تتحرك نحو تلك الشقوق لتلثمها وتتربع على سطحها العشوائي حتى تتشكل على هيئة طيور أو أشكال بشرية تميل إلى التجريد. تتحول هذه الشرائح الى إشارات رمزية تحيل إلى موضوع مكتمل، ويحاول في مرات أُخرى أن يشير إلى تشبيه الأشكال بطائر يتربع على هامة القطعة الخزفية، أو عندما تتحول إلى زهرة تعلوها وكأنها علب هدايا، لكي يمنحها إلى المتلقي الذي شاهد هذه المنجزات الخزفية، ويلجأ مرات أُخرى الى أشكال دائرية مجوفة تدور حولها كرات تتحرك لتلامس مواضع الجدار الداخلية بأكملها، في إشارة الى إن الجهات لا تعني مفتوحة تماماً، إلاّ لذاتها، بل نحن الذين ندور بها نفتش عن منافذ تؤدي إلى جحيم أكثر عنفواناً في انعتاقه من لحظة الدوران الداخلي.