زهد الدراويش سقوط في مجرة الحب السرمديّة

ثقافة 2024/12/11
...

 سعد صاحب

ليس من تعريف لقصيدة النثر، ولا قانون يلزم الشعراء بتطبيقه عند الكتابة، وبما أنها منفتحة على شتى الفنون المجاورة، من سرد وسينما وتشكيل ومسرح وتصوير ومونتاج، فإن الطرائق عديدة وليست ضيقة الحدود، ولكل شاعر أسلوب يجترحه لنفسه عند الولوج في عوالمها الفسيحة، لكن الشكل السائد بكثرة، هو كتابتها بطريقة الأشطر كما موجود في شعر التفعيلة، والقليل من يكتبها بأساليب مختلفة، كأن تكون قريبة من أجواء القصة أو الحوار المسرحي أو النص المفتوح، أو الكتلة الممتدة على طول السطور كما في الرواية، وبعض النصوص عصية على التسمية والتجنيس: (إلهي هي الآن بعيدة عني/ ولم يبقَ وقت لأجعلها تلتفت/ ساعدني كي أنساها/ أمسح عطرها من ذاكرتي/ امسح سمارها من قصائدي).
 يستمد الشاعر كتاباته من الواقع، ويرتقي بها من خلال الخيال والغرابة والترميز والالتباس، والانتماء إلى جمهرة الناس المعذبين، وهو من جيل مغضوب عليه، عانى من ويلات الحروب والحصار والمنفى والجوع والعذاب، وكانت لغته واضحة التعبير، لكنها تبدو غامضة أحيانا حين يستخدمها بأسلوب جديد، ربما يكون غير مألوف للنسق العام، المحب إلى البساطة، والكلام اليومي المتداول في الشارع: (أي الاسماء ستولد ومتى ستموت/ نحتفظ بجميع الشظايا/ التي حولتنا الى مزق صغيرة/ وكل الرصاص الذي اخترق صدورنا/ فكرة معدة للانفجار).
قصائد الشاعر بسيم عبد الواحد تعبر عن محنة الإنسان المقهور، سواء في العمل أو البيت أو المدينة التي يسكنها أو في الحياة برمتها، وهي تتطرق لمختلف الحالات الإنسانية الشاملة، على سبيل المثال: الاستغلال والروتين والغربة والخوف والقلق والاغتراب الوجودي، والسلطوية المسببة لعدم الارتياح، والملل والتعب والاجهاد والعداء والوحدة، واليأس من التغيير الايجابي، وغياب الاثارة الضرورية لإدامة التواصل، وإشاعة الأجواء الكابوسية المأججة للصراعات الجانبية، والمشجعة على تغييب الأمن والاستقرار والمتعة والهدوء والراحة والسعادة: (في الشتاء تتجمّد أحلامي/ على نوافذ عيني/ ثم تتهاطل مطرا آسنا/ على تجاعيد خدودي المتعرّجة/ فتفيض مدن وجهي الخاوية من الخدمات).
التغيير في كل الأمور شيء رائع، والشاعر بشكل خاص عليه أن يتقبل المغايرة، فلكل زمان ذائقته المختلفة، ولكل عصر ايقاعه الجديد، الذي لا يشبه ايقاعات العصور السابقة، ومن مهمات الشعر الأولى تفجير اللغة إلى أبعد المديات، والشعر الحقيقي وسيلة اتصال قبل أن يفهم، كما يقول اليوت: "أخوتي مستمرون بتصميم آبار على مقاسي/ وغياهب تليق بمراحل عمري/ كل مرة انجو منها بأعجوبة".
بسيم عبد الواحد لا يكتب في مديح الفقه الديني المؤيد للسلطات، بل يتعاطف مع الدرويش الذي لا يملك سوى الجبة، وينحاز للصوفي المتمرد على المؤسسة الحاكمة، ويرصد بلقطة جانبية، حياة الثائر ابو ذر الغفاري وما يعاني في منفى الربذة، وهكذا الشاعر الصادق، متمرد على الزمان والمكان، وعلى الأسماء الرنانة والشخوص واللافتات والأفكار المضللة. لا ينام في القصور الفاخرة، ويستعذب النوم بالقرب من الطين الحري، ويصيخ السمع الى نواح التنانير والقصب ومواويل النساء الجنوبيات، ويبتعد عن الكلام الفارغ الاجوف، ويصغي إلى صمت الأنبياء الجليل: (قرب أمي حينما تشعل الحمى عظامي/ تسجر تنورها من لظى آهاتها/ وتخبز الصلوات أرغفة لتطعمني ادعية الشفاء). أحيانا تشعر أن القصيدة دينيّة، لكنها لم تقم حاجزاً حديدياً، بينها وبين الأديان والمذاهب الأخرى، وتحس أنها حسية تمجد المرأة، وتتغزل بمفاتنها الساحرة، وفي الوقت نفسه تراها مدنية متحضرة، تبارك الحداثة والتطور والانفتاح وتطالب بحرية النساء، ونكتشف ما بين سطورها هما ثقافيا، يفضح الباطل والزيف والأخطاء والشرور والتعطيل، ويسعى إلى نشر العدالة والتقدم والازدهار، وهي حضارية تريد الارتقاء بالأمة من خلال الفنون: (أتمرد على كلب بليد/ سرّب أسرار بيته لقصاب غريب/ وعده بعظمة محشوة بالوهم والسراب).
أغلب أجواء المجموعة الشعرية الأولى لبسيم عبد الواحد، تدور حول التصوف والدراويش والزهد، والعنوان يفصح عن ذلك الجانب الروحاني الشفيف، والصوفية بأبسط تعاريفها: حب الآخرة وترك ملذات الدنية جانباً، وتحرير القلوب من الكبرياء والغرور والأحقاد والمفاسد، وتزكية الروح من الآثار المادية المدمرة، وتطهير النفس من الشهوات وكنز الأموال والمطامع، والتوجه بكل خشوع إلى ملكوت السماء، إلى عالم الحب والجمال والخير والعلم والعبادة والخلاص: (لن يستفزني اغراء غيمة حانية بعد الآن/ أنا الدرويش ليس لي سوى جبة صوف/ وتنورة من بياض).