إساءة المثقف وجدل العلاقة مع الآخر

ثقافة 2024/12/12
...

  سلام مكي

  

قبل الولوج في كتاب د. صالح زامل "إساءة المثقف" عن الاختلاف والتسامح والأيديولوجيا، الصادر عن سلسلة دراسات فكرية في جامعة الكوفة، علينا طرح سؤال: لمن أساء المثقف؟ وهل إن الكشف عن الجانب الآخر من العلاقات الانسانية بين المثقف والآخر، خصوصا تلك التي لم تنل العناية الكافية من النقد، لكونها تمثل علاقات شخصية، ذات طابع ايديولوجي، لا علاقة له بالفعل الثقافي الذي يمتاز به ذلك المثقف. فالعنوان "إساءة المثقف" يعطي بعدا استشرافيا للمثقف وعلاقاته مع الآخر المختلف، ولأن حيازة صفة المثقف، تحتاج إلى مجموعة من المعطيات، وتشترط فرض علائق ذات طبيعة خاصة، سواء بين المثقف والمثقف المختلف معه، أو بين المثقف والآخر. إن "إساءة المثقف" التي عنونها د. زامل، بمثابة اختصار لما ورد في الكتاب، فهو من جانب يمثل فعلا احتجاجيا ورفضا لما بدر من المثقف الذي سعى الى رصد أبرز العلاقات التي كانت قائمة بين المثقفين في تلك الفترة، والتي انتقى منها نماذج معينة، تمثلت بمن تصدر الثقافة العراقية في تلك آنذاك، ومن جانب آخر، فإن د. زامل، تعمد الكشف عن الثيمة المخفية في الكتاب، في محاولة منه لتجنيب القارئ عناء الكشف عنها، وتلك الثيمة تتمثل بأن ما بدر من السياب مثلا يمثل إساءة من المثقف. لكن: إساءة ضد من؟ لعلها إساءة للثقافة نفسها، بل للمثقف نفسه. 

في هذه الدراسة، يسعى د. زامل، عبر نماذج ثقافية متعددة الى الكشف عن طبيعة العلاقة القائمة بين المثقف والآخر، فيقول: لقد أتيت على خطابات المؤلفين المثقفين في متون من أزمان مختلفة، ونظرت كيف تعاملت مع موضوعات مثل الاختلاف والتسامح والايدولوجيا وهي تعالج مسألة الآخر وتخاطبه، وهل اختلف المثقف في تعاطيه مع آخره عن غيره؟ هل كان أكثر قسوة بحكم الموضع الذي تضعه فيه الثقافة الرسمية أو النخبوية التي عهدناها الآن وسابقا؟ هذه هي الأسئلة المحورية التي سعى الكاتب للإجابة عنها، بل ترك القارئ هو الذي يجيب عنها، إذا ما تناسى أن العنوان هو "إساءة المثقف". 

ولو أعدنا طرح سؤال د. زامل: هل إن المثقف اختلف عن غير المثقف في التعاطي مع الآخر؟ بحكم أنه يمتلك الأدوات التي تجعل مما يصدر عنه يختلف كليا عن الآخر الذي يفتقد تلك الأدوات. ولعل البداية التي كانت من السياب، لها عدة دلالات، فهي من جانب، أن السياب، ذلك الشاعر الكبير الذي تم على يديه الفتح الكبير للشعر العربي، بتحوله من الكتابة وفق النمط التقليدي المتمثل بالوزن والقافية الى الكتابة، التي تعتمد على عدد غير محدد من التفعيلات، ودون الالتزام بقافية واحدة، وكذلك، فإن السياب، ذلك الشاعر الاشكالي، الذي شهدت حياته السياسية، تقلبات عدة، فضلا عن أن مقالاته التي نشرها حال حياته وجمعت في كتاب واحد وهو "كنت شيوعيا" كشفت عن السياب الآخر، غير السياب الشاعر، والسياب الناثر. كشفت عن السياب السياسي/ الشيوعي/ القومي/ الذي تحرر من الشعر والنثر، وراح يكتب عن هذا وذاك، بلغة، سعى زامل إلى أن يبين أنها إساءة! ولعل ما يميز هذا الكتاب، أن الكاتب، جعل من الهامش متنا لكتابه، إذا يقول: إن كتابة السياب هذه "ويقصد كنت شيوعيا" وإن وصفها الذين تعمدوا إهمالها بأنها صحفية ومزاجية لا يمكن الركون إليها، فهي لم تبقِ ولم تذر، أرى أن قيمتها في هذه الدراسة، تأتي مما عيبت به وهو صحفيتها أولا. 

فما زهد به الآخرون، استثمره د. زامل، وسعى لأن يكشف به عن الهامش الذي بقي طي النسيان مدة طويلة، فالنقد الذي كتب، وما زال يكتب لليوم، كان ينظر الى السياب الشاعر، وفي أحيان الناثر، لكنه اليوم وفي هذا الكتاب، كان السياب الـ..

 نعود الى مفهوم الاساءة الذي تناوله الكتاب، لنقرأ زامل، وهو يقول: تعمل الاساءة بين طرفين كان أصلا بينهما فضاء من المشاركة، غير أن الاساءة فعل فردي أي توجه من طرف إلى آخر، لأنك لا تسيء غالبا لمن لا يوجد بينك وبينه مشترك أو مشتركات.. الاساءة التي سعى الكتاب لكشفها، هي السرديات التي تناولها السياب في كتابه "كنت شيوعيا". ولو سلمنا إلى ما قاله زامل من أن الاساءة تكون بين طرفين بينهما فضاء مشترك، فإن الفضاء بين السياب والثقافة، تبدو أكثر مساحة من العلاقة بين الثقافة وباقي الشعراء، فهو السياب الذي فتح مجرى كبيرا في قلب الثقافة العربية وهو الشعر، ومن خلاله تم فتح قنوات نهرية ما زالت تتفرّع إلى اليوم. فالإساءة التي وجهها السياب للثقافة، تكاد تكون أكثر فداحة من الإساءة للشيوعيين أو لغيرهم. 

أما في الفصل الثاني من الكتاب الذي جاء بعنوان "العامة في خطاب علي الوردي" فلم نلتمس ما يشير الى وجود إساءة، بل وجدنا الكاتب قد أكد على قضية أساسية، موجودة في كتابات الدكتور علي الوردي، قد لا نجدها عند أي مثقف غيره، وهي أنه كان واحدا، كان فقط عالم اجتماع، وباحثا في الشخصية العراقية، انغمس في أعمق سرديات المجتمع العراقي، وسعى لأن يكون بشخصية واحدة، وحتى مواجهاته كانت مع العامة ومع من كانوا يتصورون أنه يمثل خطرا عليهم. ولم ينسَ زامل، أن يعرج على المدة التي شهدت صداما ثقافيا وأدبيا بين شعراء ينتمون الى حقبة زمنية واحدة، وهي حقبة الستينيات، التي جاءت بعد الفترة التي شهدت الفتح الشعري على يد السياب ومجايليه. في الستينيات، كانت هنالك معارك أدبية، وصدامات بين شعراء ينتمون الى تيارات فكرية مختلفة، ويميلون الى توجهات مختلفة. تلك الفترة، شهدت إساءة حقيقية من المثقف، حيث طغت الصراعات والخلافات على المنجز الأدبي والشعري لعدد من الشعراء، بل نجد أن عددا من النقاد، لم يتمكنوا من الحديث عن الشعر في تلك المدة، من دون الحديث عن الشعراء وما دار بينهم من خلافات واختلافات لا علاقة لها بالشعر أصلا!