الذكاء الفلسفي

ثقافة 2024/12/15
...

  كاظم لفتة جبر

تعتمد ممارسة الفلسفة كشرط لوجود آلة للتفكير، وهذا ما لم يتفق عليه الفلاسفة بأنها أما تكون عقلية أو مادية أو روحية حدسية، وكل تلك العمليات ترتبط بالعقل كأساس للفهم والتأمل والحكم.
أما الفلسفة التي يطرحها الذكاء الاصطناعي فهي معالجة لبيانات موجودة في محركات البحث العالمية، ومن خلالها يبتكر موقفه، ويعبر عن الأسئلة التي تطرح عليه بشكل علمي ومنطقي.

الذكاء الإنساني ذاتي خاضع لظروف بيئيّة سواء كانت نفسية أو خارجية، أما الذكاء الاصطناعي فهو غير خاضع لهذه الظروف إلا للنظام الذي يحدد عمله. والمعرفة هي التي تحدد مستوى الذكاء، فالمعرفة عند الإنسان محدودة بمستوى ثقافي أو إبداعي، أما المعرفة التي تجدها عند الذكاء الاصطناعي فقد تكون فائقة، وقد تكون ضيقه وفقاً لحداثة الإصدار، وهذا ينطبق على العقل أيضاً.
فالفرق واضحٌ بين التفلسف الإنساني والتفلسف الاصطناعي، كون أن الأول خاضع للعقل والمشاعر والظروف، أما الثاني فهو غير خاضع إلا لمنطق العلم، الإنساني قريب من الواقع وبتفلسفه يعبر عنه، أما الثاني الاصطناعي فيقدم صورة مثالية للواقع.
فالتفلسف نشاط إنساني عرفه الإنسان مُنذ القدم، بدءاً من الشعر وانتهاءً بالتقنية، فتحولات الفلسفة ترتبط بمحركات التاريخ  الحضارية كونها عصرية متجددة، ومن هذه المحركات اللغة، والفن، والحروب السياسية، والثورات العلمية، والإبداعات والابتكارات الذاتية. أما التفلسف الاصطناعي فمرتبط بمحركات الشبكة المعلوماتية العالمية وهي  خاضعة لخوارزميات منطقية علمية. فهل هذا يجعل الفلسفة نشاطاً إنسانياً بامتياز؟
حقيقة الأمر أن نشأة الفلسفة هي التي تحدد غاية وجودها واستمرارها إلى الآن، وجودها ليس ترفاً، بقدر ما كانت تقدم تفسيراً وتوضيحاً للعالم والإنسان وما يهمه، من أسئلة الوجود إلى قيمة الحياة، فهي ليست منهجاً محدداً، بل عدة طرق وقابليات للتفكير لفهم المعنى الوجودي أو المعرفي أو الأخلاقي أو الجمالي، ولا يمكن أن تكون قوالب جاهزة بل هي بالضد منها وتعمل على تعريتها، لكن هي بالأساس فهماً ذاتياً إبداعياً يعيد تشكيل الأشياء بما يلائم العصر وكل عصر وفقاً للمشكلات التي يواجها كل إنسان في كل زمان ومكان. فالشموليّة والعموميّة ليست نابعة من الطريقة الذاتية لفهم الفيلسوف، بل من المشتركات الإنسانية في طريقة العيش وفهم الحياة، وكذلك الأهداف المشتركة من حاجات ورغبات التي اتفق عليها الناس في أنها تمثل علة وجودنا، وقيمة حياتنا، فهي فهم وجودي ونفسي قبل أن تكون علمياً، أو فهماً دينياً أو اقتصادياً أو سياسياً أو جمالياً أو أخلاقيا أو اجعل ما شئت من الموضوعات كفهمٍ لها. فلا يمكن أن نقتصر مهمتها كما يقول الفيلسوف الفرنسي "جيل دولوز" بخلق المفاهيم وابداعها، لأن ذلك يحدد وظيفتها بالتفسير، ويترك المهمة الأساسية لها وهي طريقة التفكير والتي يبتغي منه التغيير في فهمنا للأشياء والموضوعات ومتطلباتنا، وهذا ما بيّنه "ماركس" من قبل، إذ قال: لقد دأب الفلاسفة على تفسير العالم بطرق شتى، ولكن مهمة الفلسفة العمل على تغيير العالم.
لكن في نظرنا أن تغيير العالم لا يمكن أن يحدث، من دون إحداث تغيير في مفاهيمنا عن هذا العالم، فظروف العصر هي التي تحدد المفاهيم، وليست الفلسفة وحدها، فالفهم جزءٌ من التغيير، لكن يجب أن يكون فهماً موضوعياً بعيداً عن الدوافع الفرديَّة والإيديولوجيات السياسيَّة، والعقائد الدينيَّة وهذا ما تسعى له الفلسفة بذكائها.
أما التفلسف الاصطناعي فهو غير قادر على فهم العالم والإنسان كما هو، بسبب تعدد واختلاف وتفاوت الحاجات والرغبات عند الناس وأنهم خاضعون لأفكار بيئاتهم وأهدافهم، فما يريده العلم جعل الفلسفة سؤالاً علمياً محدداً بالنظريات والمفاهيم والقواعد، وذلك لا يلائم طبيعة الفلسفة كونها لا تحدد بإطار، ولا تنتظر من أحد أن يعطيها مساحة للعمل في عصريتها، بل هي التي تخلق وتجدد مساحتها.
الذكاء والدقة والملاحظة والوضوح والموسوعية من صفات الفلسفة التي تميزت بها، وتلك الصفات جعلتها تكون تطبيقية قريبة من العلم، ومن مخرجاتها جعل الذكاء اصطناعيا في محاولتها لمساعدة الأفراد الأقل ذكاءً لمجاراتهم تقدم العالم والعلوم.