الفكرة العربيَّة عن الإنسان

ثقافة 2024/12/16
...

  ترجمة: كامل عويد العامري 

لم يكن الإنسان ليوجد قبل أن تهيئ أوروبا الظروف الملائمة لمجيئه في نهاية القرن الثامن عشر. وخلافا لهذا التأكيد، فإن التحقيق الذي يجري هنا يزعم أنه إذا كان الإنسان -كأداة مفاهيميَّة- اختراعا يونانيا، فإن تجديده كان عربيًّا قبل أن يكون أوروبيًا. ولد الإنسان في اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، وجُدد في الإسكندرية في النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد، واختفى في حدود العصور القديمة المتأخرة، قبل أن يجد الحياة مرة أخرى في الشرق الأدنى، في عهد العباسيين الأوائل. إن اللاهوتيين العقلانيين هم الذين يتلقون ذلك في موقعهم، ليؤسسوا ثيوديسياً إلها عادلاً لا يمكن أن يكون كذلك إلا من خلال الاعتراف لمخلوقاته البشريَّة بفاعليتها في أفعالها. ثم أعطاها الفلاسفة الناطقون بالعربية حيزا خاصا بها تحت اسم "علوم الإنسان"، في مناهج الدراسات الفلسفيَّة، لأول مرة قبل نهاية القرن التاسع بقليل. لكن اللاهوت الأكثر تقليديَّة كان على حق. ولم يظهر مرة أخرى إلا في عصر النهضة الإيطالية، مع الحفاظ على أصوله العربيَّة.

يحدث أحيانًا أن تصبح الأطروحات الفلسفيَّة الشهيرة، التي غالبًا ما تنسى حدودها اللغوية والاجتماعية والجغرافية والمعرفية، أخطاءً عالميَّة... لا جدالَ فيها تقريبًا. إن تأكيد ميشيل فوكو المعروف على أن الإنسان، كأداة مفاهيميَّة، هو اختراع أوروبي في حدود القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هو مثال على بعض المركزية الأوروبية في الفلسفة التي لا يعيرها النقاد سوى القليل من الاهتمام. وفي مقابل هذه الفرضية، يوضح المؤرخ هواري التواتي في كتابه الجديد أن الإنسان، بعد اختفائه على حافة العصور القديمة المتأخرة، أعيد اختراعه في بغداد، في عهد الخلفاء العباسيين الأوائل، في سياق تميز بـ "أعظم ترجمة علمية وفلسفية على الإطلاق" تتحقق في عصور ما قبل الحداثة". إن مفهوم الإنسان سيكون له وجهان: أحدهما يوناني والآخر عربي. هواري التواتي، مؤلف العديد من الأعمال حول حضارة البلدان الإسلامية ومدير مجلة الدراسات الإسلامية، يجيب عن أسئلة كثيرة في كتابه (بداية الإنسان في الإسلام واختفاؤه. من أثينا إلى بغداد). دار فرين، سلسلة "دراسات اسلامية"، 512 صفحة، حول هذا الفصل غير المعروف في تاريخ الأفكار.


نقل العلوم

تتمحور أطروحة الكتاب حول فكرة قوية، ربما غير مسبوقة في تاريخ الأفكار والفلسفة. عن كيفية انتقال الإنسان، في نهاية القرن الثامن، من أثينا إلى بغداد عبر الإسكندرية؟، وفي هذا السياق، يوضح ديميتري غوتاس، وهو أحد أفضل الخبراء في حركة الترجمة اليونانية العربية، أن اهتمام العباسيين بعلم التنجيم الذي تصوروه كعلم سياسي، هو الذي دفعهم إلى الاستحواذ على التراث الفلسفي والعلمي اليوناني. والكاتب لا يعارض هذه الفرضية، ولكنه يرى أنه لا يمكننا أن نعزو سببا واحدا لهذه الظاهرة المعقدة، خاصة وأن معظم الفلاسفة الكبار الناطقين بالعربية قد طعنوا في الصحة العلمية لعلم التنجيم، فضلا عن ذلك، في ثقافة حيث يكون وزن الطبقة الدينية كبيرًا، لا يمكن للمرء أن يشرع في مثل هذا المشروع المحفوف بالمخاطر من دون دعم على الأقل من بعض أعضائها المؤثرين. وهذا ما فعله العلماء العقلانيون، الذين لم يكن بوسع دولهم الاستغناء عنهم في ظل إمبراطورية متعددة الأعراق والطوائف، وكانت مجتمعاتهم العلمية غير المسلمة ديناميكية بشكل خاص. يمكننا من ثم أن نطرح فكرة أن نقل العلوم لعب دوره أيضًا، لا سيما أنّه لا ينفصل عن "نقل المُلك". وكان هؤلاء العلماء العقلانيون في حاجة إلى نظرية في الفيزياء – وكان معظمهم ملتزمًا بالمذهب الذري – ولكن أيضًا إلى نظرية عن الإنسان. 

لقد وجد هذا وذاك بين اليونانيين. في نظريتهم عن إله عادل وصالح، يجب على الإنسان أن يستخدم مبدأ العقل لمعرفة هذا الإله والاعتراف به باعتباره خالق الكون، وهو مفهوم يوناني آخر، لأنه لا يستطيع ألا يفعل ذلك، وهذا اختياره. الله لا يستطيع أن يفعل أي شيء حيال ذلك. ولا يستطيع أن يجبر الإنسان على محبته تحت طائلة تقويض عقلانيته وقدرته. وهذا ما دافع عنه المعتزلة في تأييد هذا التعريف للإنسان، الذي يجعله "الحي المستطيع". 

لدينا هنا مفهومان أساسيان في أنثروبولوجيا المعتزلة: الحياة والقدرة التي لم يتمكنوا من تطويرها إلا عن طريق الفلسفة، وهو ما لم يتمكنوا من القيام به إلا عندما أصبحوا هلينيين. ولهذا السبب، عندما وصلت الفلسفة اليونانية إلى الأراضي الإسلامية، رُحب بها في موقع اللاهوت العقلاني، قبل أن يصبح "التفلسف" - وهو مفهوم صيغ في القرن العاشر - احترافًا يتطلب طبقة من الخبراء.

يبدو أن كل شيء قد حدث في العراق، بين بغداد وسامراء، في حلقة «فيلسوف العرب» الكندي (ت 873) الذي جمع عددًا كبيرًا من الفلاسفة والعلماء والمترجمين من مختلف الأديان والجنسيات وكان مشروعه إعادة تشكيل منهج دراسة الفلسفة كما كان يُدرَّس في المدارس الفلسفية في أثينا والإسكندرية في أواخر العصر القديم. وكان الهدف من ذلك هو استعادة منهج الفلسفة الذي كان قد سقط في الإهمال في مجمله منذ القرن السادس. في هذا السياق الجديد جرى الترحيب بالإنسان القادم من اليونان في موقع محدد مخصص له وتحريره من اللاهوت. وعلى النقيض من اللاهوتيين العقلانيين، اعترض الفلاسفة على أن الإنسان يمكن تعريفه من خلال قدرته. لأنّه لكي يكون المرء قادرًا، ومن ثم لكي تكون لديه إرادة حرة، يجب أن يكون قد وُهب العقل. لكن الإنسان هو أيضًا حيوان يأتي إلى العالم عاريًا (عرياناً)، لذلك فهو بحاجة إلى طريقة حياة تسمح له بـ "إلباس" عريه، أي أن يضمن قابليته للحياة، وأن يحقق العقل الذي لا يملك، في النهاية، سوى إمكانية امتلاكه. لذلك اعتبر هؤلاء الفلاسفة أنفسهم أن العقلانية والسياسة (المدنية) هما أفضل أسس لها.

ويتحدث الكاتب في كتابه عن تبلور علم الإنسان (علم المعاني) في السياقين العربي والإسلامي. فما هي خصوصية هذا العلم؟ وما هي خصوصيته في طبيعة الإنسان؟

كان الابتكار في الواقع يتمثل في جمع مختلف الخطابات الفلسفية والعلمية حول الإنسان في تكوين معرفي واحد أطلق عليه الكندي وأصدقاؤه اسم "العلوم الإنسانية" بصيغة الجمع للتأكيد على تعددها، و"علم الإنسان" بصيغة المفرد للتأكيد على وحدته. كان هذا ابتكارًا كبيرًا. فلأول مرة يجري الحديث عن العلوم الإنسانيّة. ولم يكن هذا المفهوم معروفًا عند الإغريق: فمن أرسطو إلى جالينوس، مرورًا بشرّاحهم ومتابعيهم، لم يتحدث فلاسفة اليونان وعلماؤهم إلا عن "الأشياء الإنسانيّة" و"الأشياء الإلهيّة" موضوعًا للفلسفة. وهذا ما فعله الفلاسفة الأوائل الذين كانوا ناطقين بالعربيّة. لكن هذا ليس هو نفسه الحديث عن العلوم الإنسانيّة. فالمسألة ليست مجرد جرد لهذه العلوم، بل هي مسألة بناء نظام تجريبي قادر على وصف الإنسان من خلال أدواته الخطابيّة المختلفة: علم الأجنة وعلم الفراسة وعلم دراسة الشخصية وعلم النفس وعلم الأخلاق وعلم السياسة وعلم التنجيم والجغرافيا... إلخ، وفي كل مرة. يكون الهدف هو بناء مجموعة من المعارف التي ينبثق منها الإنسان كأداة مفاهيميّة.

الجزء الأكثر إثارة للاهتمام من هذه المعرفة هو المعياري أو التجريبي. ولا شكَّ أن الجغرافيين، مدعومين بالنماذج التفسيرية الأبقراطية والأرسطية، هم بلا شك أولئك الذين ذهبوا بالبحث التجريبي إلى أبعد مدى من خلال السفر واستخدام التشريح ( العيان)، أي الملاحظة المباشرة، ويفضل أن تكون بصريَّة، لإنتاج معرفة جديدة يمكن التحقق منها وفق إجراءات مجربة وخاضعة للاختبار لإثبات ما هو صحيح، ومثبتة بنظرية المعرفة الشرعية. لا يمكن تجاوز التجريب: من أجل تحدي أرسطو الذي يرى أن الذكور من البشر هم وحدهم من يطلق الحيوانات المنوية ومن ثم هم المبدأ الفاعل في توليد وتكاثر النوع، على عكس الإناث من البشر، اللاتي لا يملكن أي حيوان منوي ولا يسهمنَ في التكاثر إلا من خلال مادة الحيض، أما جالينوس الذي يعترف، مثل أبقراط، بأن النساء ينتجن الحيوانات المنوية، ولكنه مثل أرسطو يرى أن النساء باردات بينما الرجال ذوو مزاج حار، فقد أجرى الفيلسوف والطبيب الرازي تجارب فيزيائية ليثبت أن النساء ذوات مزاج حار مثلهن مثل الرجال. وهذا التفسير الفسيولوجي له عواقب أخلاقية، وقد سارع الرازي بالإشارة إلى أحد علماء اللاهوت الإسماعيلي الذي أنكر أن الرجال متشابهون وأن النساء قادرات على التفلسف. من الواضح أن علوم الإنسان هذه ليست علومنا، ولكن المبدأ الذي يحكمها لم يتغير. إذ لا وجود للإنسان من دون هذه العلوم. فالإنسان لا وجود له من دون العلوم التي تؤسس وتؤرخ له.


كيف فسّر فلاسفة وعلماء الدين العرب الضحك عند الإنسان؟

ومن بين الأهواء، الضحك هو شأن الإنسان العظيم. هكذا قرر المناطقة اليونانيون، وتبعهم في ذلك مقلدوهم من العرب، وذلك بتمييز التعريف الجوهري للإنسان عن تعريفه الوصفي، وأشهرها التعريف الذي يجعل الضحك من خصوصيات الإنسان: إنه الحيوان الوحيد الذي يضحك. ولكن لماذا الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك؟ أي من العنصرين المكونين للإنسان يثير الضحك: الجسد أم الروح؟ ماذا عن فسيولوجيا الضحك؟ كيف يعمل؟ فقط من خلال الدغدغة؟ لكن الضحك أحيانًا يعني أيضًا البكاء الذي يبدو أيضًا سمة إنسانية: لماذا وكيف يكون الضحك مصحوبًا بالبكاء؟ وإذا كان هناك سيكولوجية للضحك، فكيف يمكن أن يكون فعلًا نفسيًا؟ هكذا نشأت التساؤلات الأنثروبولوجية، لأن "الإنسان أصبح قضية للإنسان"، على حد تعبير الكاتب الفلسفي العراقي التوحيدي الذي عاش في أواخر القرن العاشر الميلادي، والذي ترك لنا واحدة من أهم التساؤلات الفلسفية الأنثروبولوجية التي عرفها عصر ما قبل الحداثة.

ولكن يبدو أن الضحك كان في البداية محل اهتمام اللاهوتيين. وردًا على المفسرين الحروفيين للقرآن الكريم الذين أكدوا أن الله يضحك كما يضحك الإنسان، وهو رأي يؤيده الأشعريون التقليديون، رد علماء الدين العقلانيون بأن الله لا يمكن أن يضحك، لأن الضحك أمر بشري. فالإنسان وحده هو الذي يملك جهازًا صوتيًا وتنفسيًا يجعل ضحكه ممكنًا آليًا. وفضلا عن ذلك، فإن الله لا يضحك لأنه لا يندهش. وحده الإنسان يتمتع بهذه القدرة على الاندهاش، هو الوحيد من بين جميع الكائنات الحيوانية الذي يمتلك اللوغوس النفسي والخطابي (النطق). ولأول مرة أصبح للضحك نظرية خاصة به. لم يستطع أرسطو ولا الإسكندر الأفروديتي ولا جالينوس ولا بروكلوس الزائف (أيتيوس) الذين بحثوا في هذه المسألة، أن يحلوا لغزها. وحتى أقل من ذلك شيشرون وكوينتيليان: على الرغم من أن كليهما أثار السؤال، إلا أنهما امتنعا عن الإجابة عليه. وقد تبنّى الفلاسفة والأطباء العرب فيما بعد نظرية الضحك على أنه دهشة (تعجب)، قبل أن تصل إلى أوروبا اللاتينية، ولا سيما من خلال ابن سينا. أصبح التعجب هو الإعجاب. ولكن يبدو أن الفلاسفة اللاتينيين لم يعيروه اهتمامًا كبيرًا. وكان علينا أن ننتظر حتى عصر النهضة لاستعادة استقباله. كان الطبيب الإنساني الإيطالي جيرولامو فراكاستورو في القرن السادس عشر أول عالم أوروبي يشرح ذلك في كتابه "عن التعاطف والكراهية" 1550.  ولكن من خلال ديكارت وهوبز انتشر في الثقافة الأوروبية. ولهذا السبب، فضل عن كونه يونانيًا، فإن الإنسان عربي أيضًا.


الأشعري ومفهوم الإنسان

من هو الأشعري؟ وكيف أفرغ هذا اللاهوتي وتلاميذه، منذ القرن العاشر فصاعدًا، مفهوم الإنسان من جوهره، أي "الكائن العاقل الفاني "عند الفلاسفة"، و" الإنسان الحي القادر" بالنسبة للفلاسفة. المعتزلة؟ 

الأشعري هو مؤسس المدرسة الكلاميَّة التقليديَّة التي لا تزال موجودة حتى اليوم كان ينتمي إلى مدرسة المعتزلة في البصرة، مسقط رأسه، قبل أن ينفصل عنها في أعقاب أزمة الخلافة الخطيرة في نهاية القرن التاسع. وكان قد استمد أعنف نقده للأنثروبولوجيا التي من شأنها تجريد الإنسان من أي اتساق من نفسه. فقد رفض الفكرة القائلة بأن الإنسان يمكن أن يكون حيواناً عاقلاً فانياً، كما قال الفلاسفة، ورفض فكرة أن يكون الإنسان محدداً بحياته وقدرته، كما قال المعتزلة. وردّ على كليهما بنظرية "الاكتساب" (الكسب) التي تقول بأن الله هو الذي يخلق أفعال الإنسان والإنسان هو الذي يكتسبها، بحيث أن فاعلية الإنسان لا تكون إلا لله وحده، إذ لو كان الإنسان هو الفاعل لأفعاله لكان قد استبدل نفسه بخالقه. وقد ردَّ المعتزلة على نظرية الاكتساب هذه بمساواتها بنظرية "الجبر الإلهي"(الجبر) عند أنصار الحتميَّة القدريَّة. ووفقًا لهذه النظرية، فإن الإنسان ليس أكثر من ورقة الشجر التي تدور حولها الرياح حسب حركاتها المتقلبة. وانتهى هذا الاتجاه السائد في علم الكلام التقليدي إلى فرض هيمنته وإخراج المعتزلة في الوقت نفسه الذي مارس فيه ضغطًا على الفلسفة – قبل الغزالي وبعده – حتى أن الرجل الذي دخل الإسلام من باب الكلام خرج من هذا الباب نفسه. ثم أعلن منتقدو الرجل في الإسلام بعد وفاته.  


الإنسان في عصر النهضة

كيف فكر مفكرو عصر النهضة في القرن التاسع عشر في "اختفاء الإنسان" في الإسلام وانتقدوه؟ هل اقترحوا "ولادة جديدة للإنسان"، بما يتماشى مع المثل الإنسانية والتعددية في بغداد القرن الثامن؟.

كانت النهضة حركة ثقافية وفكرية عظيمة، ذات وجهين، أحدهما علماني والآخر ديني. كانت مهمتها التاريخية إيقاظ الشعوب الإسلامية، عرباً وغير عرب على السواء، من "سباتها" كما عُرفت في الفترة ما بين نهاية القرن التاسع عشر ونهاية الحرب العالمية الأولى عند البعض، وبداية الحرب العالمية الثانية عند البعض الآخر. وانبثقت عن ذلك حركة أدبيَّة نمت من رحمها استمرت حتى الآن، لكن الإصلاحيين الحداثويين لم يتمكنوا أو لم يرغبوا في فرض أنفسهم على المصلحين الدينيين الذين استولوا على مقاليد الأمور. ومع ذلك فقد برزت مسألة الإنسان في هذا السياق من الحراك الفكري والثقافي والسياسي، لا سيما أنه كان لا بدَّ من انتزاع الإسلام من فكرة القدرية التي ربطته بها أوروبا الاستعماريَّة. كان هذا هو الصراع الكبير الذي خاضه رجلان: فارسي هو جمال الدين الأفغاني، ومصري هو محمد عبده. ولكن عندما يتعلق الأمر باللاهوت، كان الأخير هو الأكثر جرأة من الاثنين. وتمسك الأفغاني بالمفهوم الأشعري الجديد للإنسان، وهو ما كان عبده قد أعلنه، قبل أن يتخذ مواقف تقربه من المعتزلة. لقد هزت الحركة الإصلاحية الدينيَّة أزمة عقائديَّة، وقد حلها تلميذ عبده وخليفته على رأس الحركة: السوري محمد رشيد رضا. ليس من دون إثارة نوع من الإصلاح المضاد. فمن أجل إعادة ترسيخ عقيدة الأشاعرة - التي كان قد أشاعها من خلال مجلة المنار، وتفسيره للقرآن" - اضطر رضا إلى مهاجمة كتابه "رسالة التوحيد" بعد وفاة شيخه، وتطهيرها من كل آثار المعتزلة.

لقد غرقت الإصلاحية الدينية في السلفية، قبل أن تضعفها الأيديولوجية السياسية الدينية للإخوان المسلمين وتندمج مع الوهابية التي لم تستطع أن تحييها إلا بتبعاتها التي لا تزال تهز العالم بتشنجاتها. لقد كان هناك مثقفون مسلمون أحيوا النزعة الإصلاحية الإنسانية لعبده، لكن القليل منهم تجرؤوا على التحرر من الأشعريّة وأكدوا بشكل لا لبس فيه على فاعلية الإنسان وإرادته الحرة، معتبرين كليهما ضمانة لاستقلاله الذاتي - مهما كان نسبيا - ومسؤوليته الأخلاقية، بقدر ما هي من النوع الذي يمارسه الإنسان دون تمييز تجاه نفسه وتجاه أخيه الإنسان.