زهير الجبوري
تتضح التجربة المسرحية التي يشتغل عليها علي عبد النبي الزيدي مؤلفاً ومخرجاً على قدر كبير من الحدة التصاعديَّة لثيمة الموضوع وأدائيَّة اشتغاله، فالتمسك بحالات الواقع وإفرازاته تمثل المساحة الواسعة في نصوصه وفي اشتغاله لهذه النصوص "إخراجيّاً"، وفي آخر عرض قدم في قاعة مدينة أور السياحية ضمن فعاليات مهرجان الحبوبي نهاية شهر تشرين الثاني 2024 والمعنون بـ "حدث ما لمْ يحدث" تتضح متواليات العرض على البصمة التي عرف بها الزيدي في أعماله..
مشهديَّة الاستهلال في بداية العرض للرجل الأب "المعاق" الفنان القدير محسن خزعل وهو يتكئ على "عُكَّاز" تستخلص عبره مراحل كبيرة في حياة الألم الاجتماعي والنفسي، وموسيقى تتناسق مع قتامة المكان وظهور الضباب "البخور" من جانب المسرح وحضور "النادل" الذي يشعل الشموع فوق المنضدة، ومع مهارة الأداء ورشاقة المنولوج لـخزعل، نلمس الاسترسال الوافي لقصدية المعنى المراد طرحه، صحيح أنّه بدى للوهلة الأولى بطريقة تراجيديّة، غير ان تصاعديّة الحدث أفاضت في الكشف عن حقائق دقيقة ومؤثرة بينه وبين ولده عبد الرزاق مخلّد جاسم الذي لا يريد منه الخروج من البيت، فالبحث عن الذات خارج إطار المكان/ البيت، هو رسالة للكشف عن الهوية المتشظية، والذات المنهارة، فالـ "أب" هنا كانت له رمزية السلطة البطرياركية العاجزة عن تطبيق الرغبات في الخروج، ليتحول بعد ذلك الى "منولوج" وباللغة التي يمكن تسميتها بـ "شعريَّة الحوار" وهي ذات اللغة التي لمسناها في أعمال الزيدي فحين يقول الأب "نفخت في روحي في هذا البيت ولا أعلم أن روحي لا تنجب سوى الموتى" ثم يسترسل بالكلام "كلّكم أخطاء"، يستنهض الابن بكلامه قائلاً "أتيت من دون موافقتي"، ما تتصدى له جدليَّة الحوار الى كشف حقائق هي في بنيتها المكتوبة والأدائيَّة ذات توصلات خطابيَّة مرموزة للواقع المشحون بالكثير من الأوجاع والآلام العراقيَّة الجنوبيَّة.
اللعب بالزمن واحدة من علامات العرض، ولم تكن الحواريَّة سوى تدشين للثيمة الافتراضيَّة للزمن المقبل، وعلى قدر الحواريَّة التي أعطت شكلا تصاعديا للرجل/ الأب، ومستوى أدائي ثابت للابن، نتج من خلاله استخلاص ما بعد الفكرة، وهي دائماً ما تكون في بنية السرد الروائي والقصصي، غير ان المؤلف اعطى لها البعد التصوري عبر طريقة الإخراج، بمعنى وجود "بارتات" افتراضية للزمن عن طريق استخدام "الداتا شو" فالابن الذي يمتلك من العمر "30 عاما" ويريد الزواج من حبيبته، أبلغه والده بأنّه بعمر "80 عاماً" لتظهر صورته وهو رجل عجوز، وانه في عداد الموتى، و"أنه مجرد عظام في قبر" فالافتراضية هنا يمكن تسميتها بلعبة "الميتا فكشن" وأن التفاصيل التي تروى وتكتب يمكن لها ان تجسّد وتؤدى، وهذا ما لمسناه فعلا، حينها يبحث الشاب عن قبره ثم يجد ذلك من خلال قراءته للوحة فوق قبر مكتوب عليه اسمه وأنّه توفي "2084" ما تقتضي عليه الفكرة حول جدل مفاهيمي يفتتح للتداول، حتى عبارة الأب كانت مؤثرة حين قال "الوقت طفل صغير" فالجدل الحاصل في متواليات العرض ان المسألة ترتبط بخطاب شامل وواسع ينطلق من البيت ثم الى الواقع المحيط ثم الى الفضاء العام المفتوح، فهي بؤرة شاملة لقضية وجوديَّة مكرّسة في واقعنا المعاش، ولم يكن صراع الابن المنتفض بوجه والده سوى قلق "دستوبي" لشخصية حاضرة ومنفعلة، وأخرى تعلن النهاية، فالمعادل الموضوعي تشكّل عبر النتائج التي ظهرت عليه الحقائق المطروحة والمضطربة في تفاصيل العرض، وحضور العائلة على مائدة الطعام مع نزول المطر، سرعان ما يظهر المشهد في منطقة عراء وفضاء مفتوح عبر "الداتا شو"، فأين البيت إذن؟ وأين حدود العائلة؟ القلق وتشظي هوية العائلة هو ذاته تشظي هوية الفرد الذي عاش تفاصيل مؤلمة في واقعه ..!
الفنان الشاب مخلّد جاسم يتقن لعبة الدور من خلال تمركزيّة الأداء وتنوع التحولات التي يقتضيها العرض، فهو المنفعل تارة والمسترخي تارة أخرى، يهدد والده في قتله بالمسدس لو فكر بالخروج من البيت، ثم يطلق رصاصة في الفضاء "إنْ خرجت.. أقتلك بالمسدس" فهو يريد الزواج من حبيبته "ياسمين" لكنه لا يدرك ما سرُّ اللعبة وأن الأشياء تتخفى في حقائقها عند الأب، ومع كل ما تقدم، ثمّة منولوجات ناقدة للواقع وللمقدس، ولا ضيرَ في ذلك فإنَّ علي عبد النبي الزيدي قريب جداً تفاصيل واقعه واستطاع ان يمرر خطابه ورفضه لذلك.
في مسرحية "حَدَثَ مَا لَمْ يَحدُث" تتوالد الأسئلة لدى المتلقي، ويبقى العرض مفتوحاً باتجاهات التأويل، ولعل ذلك أعطى مساحة واسعة في طرح النهاية التي يقوم الابن عبد الرزاق بإطلاق رصاصة ثانية مع إطفاء الإضاءة وانتهاء العرض، فمن هو القاتل؟، ومن المقتول؟، وما هي النتيجة؟، كل هذه الأسئلة انطوت على مساحة ما بعدية، قد نمسك بموضوعة أخرى مكملة للمضمون قدمها المؤلف، لذا نحن عشنا عالم علي عبد النبي الزيدي ومن معه، وهو من المؤلفين الذين لا يعطيك فرصة ولو صغيرة في الابتعاد عنه.