احتدام صراع المحاور وامتناع النظام {الشرق أوسطي}

قضايا عربية ودولية 2024/12/16
...

 جواد علي كسار

قرأت لبعض المحللين تعقيباً على انهيار نظام الأسد بشقيه الأسري والحزبي، اقتباسهم عن الباحثة الأميركية الألمانية الأصل حنة آرنت (1906 - 1975م) ما ذهبت إليه في مشروعها التنظيري الأهمّ لتفكيك النظم الاستبدادية الشمولية، الموسوم "أصول الشمولية"؛ من أن كل شيء يبدو هادئاً في الأنظمة الديكتاتورية حتى قبل الربع ساعة الأخيرة، ثمّ ينقلب كل شيء!. الحقيقة أن هذا الوصف لا ينطبق بحال على سقوط نظام الأسد بمعايير التحليل السياسي

كما بدلالات الواقع وتطوّرات حوادث المشهد السوري أيضاً، في الأقلّ إبّان العقد الأخير الذي أعقب انطلاق الحركة الشعبية ما بعد آذار 2011م، ومن ثمّ إذا كان لابدّ من مقاربة من هذا القبيل، فالاقتباس الأوفق هو ما ذكره الأكاديمي والسياسي الأميركي صامويل هنتنغتون (1927 - 2008م) ضمن كتاب من أبرز كتبه، هو: "النظام السياسي في المجتمعات المتحوّلة".


الاستبداديات الهشة

يقوم جوهر التفسير الذي قدّمه هنتنغتون، بما ذهب إليه من أن التحديث الاجتماعي والاقتصادي في الرقعة الموسومة بالعالم الثالث، لا يكفي وحده، بل سرعان ما تكون له تداعيات على الاستقرار السياسي نفسه، خاصةً إذا سار بقفزات أو وتائر متصاعدة، ما يستدعي بالضرورة إيجاد متغيّرات في النظام السياسي تؤمّن تلك التحوّلات وتحميها. المثال الأبرز الذي يُضرب عادةً لهذه الفرضية هي زيارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (في الرئاسة: 1977 ـ 1981م) إلى طهران عام 1977م، ووصفه لإيران في ظلّ نظام الشاه محمد رضا بهلوي (في السلطة: 1944 ـ 1979م) بأن: "إيران هي جزيرة الاستقرار في الشرق الأوسط"، إذ ما لبثت هذه "الجزيرة" أن دخلت في أتون حركيات فعل ثوري عاصف انتهى إلى سقوط نظام الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية عام 1979م.

الشقّ الأول في نظرية التفسير عند هنتنغتون يقوم على فرضية «الأنظمة الاستبدادية الهشة»، وأن الهشاشة البنيوية هي الصفة الحقيقية لهذه الأنظمة، وإن استطاعت أن تغطي هشاشتها هذه بستار رقيق من الاستقرار الزائف الذي يحجب عن مشاهدة التحوّلات التغييرية العميقة، حتى إذا ما انزاح الستار وسقط الاقتدار الزائف، برزت هشاشة هذه الأنظمة على حقيقتها.

أما الشقّ الآخر في الفرضية، فهو يرجع إلى ما أسماه هنتنغتون بخصائص «الثورات الشرقية» وفي طليعتها اثنتان؛ الخصيصة الأولى هي حركة هذه الثورات من الأطراف صوب العاصمة وليس العكس، كما يضرب لذلك مثلاً بحركة التغيير في الصين عام 1949م، بقيادة ماو تسي تونغ، وحركة التغيير في كوبا عام 1959م بقيادة فيديل كاسترو، وقد انتهت كلتاهما بالعاصمة. الخصيصة الثانية للثورات وأشكال التغيير الشرقية بحسب صمويل هنتنغتون، ترتبط بما لاحظه من أن هذه الثورات وأنساق التغيير المحاذي لها تتحرّك دائماً بمخاطر وجود الحرب الداخلية، إن لم تكن هذه الثورات والتحرّكات هي بنفسها ضرباً من الحرب الداخلية وأحياناً الأهلية.

مع أنني قرأتُ لبعض المحللين استعانتهم بنظرية هنتنغتون في التفسير؛ إلا أنني لا أجدها وافية وإن كانت أفضل من سابقتها؛ بحكم أن المرتكزات التي تنطلق منها صحيحة بالإجمال.


من الكواكبي إلى غليون

إذا كان لابدّ من أن تتمحور نظرية التفسير حول الاستبداد، وأن ديكتاتورية نظام الأسد وأحاديتها الأسرية والحزبية والطائفية والسياسية والمناطقية؛ وراء الانهيار وأن السبب كامن في بُنية النظام نفسه؛ فإن من المجحف حقاً بالعقل السوري أن نلجأ إلى تفسيرات نظرية من خارج بنيته وبعيداً عن ثمار العقل السوري نفسه، حين أفرز لنا هذا العقل مدوّنة كانت ولم تزل باذخة في خصوصيتها وطراوتها، وهي تقرأ فجائع الاستبداد وكوارثه المدمّرة على الإنسان والبلدان والعمران، أقصد بها مدوّنة أحد كبار رادة النهضة والإحياء في العالم العربي والإسلامي، علامة حلب والمشرق السيد عبد الرحمن الكواكبي (1855 ـ 1902م) في كتابه الباهر: «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» .

إذا كان «طبائع الاستبداد» هو مدوّنة كبرى حالها حال بقية المدوّنات يقتصر دورها أو يكاد، على التأصيل والتأسيس وذكر القوانين العامة للظاهرة؛ فإن العقل السوري نفسه زوّدنا عبر مفكريه المعاصرين، بمن أشاد البناء وحوّل مدوّنة الكواكبي، إلى ثقافة عامة وتنوير اجتماعي عريض، بمخاطر الاستبداد حين يضرب الدولة ويسود المجتمع، من دون أن يكتفي بتحليل الظاهرة وتفكيكها، بل تجاوز ذلك إلى التفكير العميق بالحلول، ووضع الخيارات الممكنة للعلاج.

قد لا نبالغ إذا قلنا إن للشوام مكتبة مترامية الأطراف على هذا الصعيد، سأكتفي بإشارة عامة إلى واحدٍ من أهمّ رموزها، أقصد به المفكر والأكاديمي (وبعد ذلك السياسي) السوري برهان غليون (معاصر، ولد: 1945م). لا أحسب أن مثقفاً معنياً بقضايا الثقافة والتحوّل الاجتماعي لم يقف على كتابي غليون «مجتمع النخبة» و«اغتيال العقل». ولا أظن أن مهتمّاً بقضايا المصير والنهضة ودور الدين لم يمرّ على كتبه: «سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية» و«الدولة والدين» و«ثقافة العولمة وعولمة الثقافة».

كما لا أحسب أن معاصراً لتداعيات حرب الخليج الثانية عام 1990م وتحرير الكويت، لم يمكث عند مرافعته الجريئة لصالح شعوب الأمة ضدّ استبداد الدولة: «المحنة العربية: الدولة ضدّ الأمة». وبشأن أبرز مشكلات المنطقة، فقد أصدر مبكراً، كتابه: «بيان من أجل الديموقراطية» (عام: 1986م) ثمّ أردفه بمعالجة واحدة من أبرز معضلات السياسة والنظم بالإقليم العربي في شقه المشرقي، عبر كتابه: «المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات»، قبل أن يخصّص للحراك الشعبي أو الثورة المغدورة في بلده، كتابه المعنون: «عطب الذات وقانون ثورة لم تكتمل: سوريا 2011 ـ 2012م).

إن قراءة أي واحدة من معالجات برهان غليون كمثال، تغني لفهم واقع المنطقة على مستوى الإنسان والثقافة والمجتمع، كما على مستوى إشكاليات التحوّل في السياسة والدولة والإقليم، وتقدّم تفسيراً هو الأقرب إلى الواقع، يغني عن فرضيات الآخرين ولاسيّما الغربيين، لكن من دون السقوط في النرجسية أو الانغلاق المعرفي.


ثلاث عواصف وثلاث هزات

باختصار شديد، يمكن القول إن المنطقة شهدت خلال السنوات الخمسين التي مضت، ثلاث عواصف كبرى وثلاث هزّات؛ تمثلت العاصفة الأولى بسقوط نظام الشاه محمد رضا بهلوي وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979م؛ والثانية سقوط نظام صدام حسين الدكتاتوري، وقيام الوضع الجديد في العراق عام 2003م؛ أما العاصفة الثالثة فهي بلا شك لحظة سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وانتهاء ليس فقط حكم الأسرة الأسدية (الأب والابن: 1970 ـ 2024م)، بل الأهمّ من ذلك إسدال الستار على حقبة حزب البعث بشقيه السوري والعراقي، وإراحة البلاد والعباد منه.

أما الهزات الثلاث البارزة؛ فالأولى هي غزو صدام حسين للكويت عام 1990م، وحوادث الربيع العربي وما أدّت إليه من تغيير في تونس والقاهرة وليبيا واليمن عام 2011م، وأخيراً انطلاق عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول 2023م، التي لم تزل مستمرّة بنفسها وتداعياتها.

لا ريب أن التأثير الإقليمي والدولي للعواصف الثلاث أكبر من الهزات رغم بعض التفاعل بينها، لاسيّما بين طوفان الأقصى وسقوط الأسد. وقد كان الحديث يتجدّد مع كلّ متغيّر من هذه المتغيّرات الكبرى في الإقليم، عن أفكار تتجاوز التصوّرات إلى وضع الصياغات المفترضة عن نظام شرق أوسطي جديد.

حقيقة الحال، أن هذا النظام لم يتحقق في الخارج وفي واقع المنطقة وعلى الأرض، ليس خلال النصف قرن الذي مرّ وحسب، بل منذ أن وُلد المصطلح وتبلور قبل مائة وعشرين عاماً من الآن، عندما عرض له عام 1920م ضابط بحري أمريكي هو الكابتن الفريد ماهان صاحب نظرية تأثير القوّة البحرية في التأريخ، ثمّ ذاع وتطوّر عبر الفكر الاستراتيجي البريطاني، حين كانت لندن من أكثر عواصم الدنيا التصاقاً بقضايا المنطقة (يُنظر: النظام الإقليمي العربي، ص 22).

بديهي، شهد مفهوم الشرق الأوسط والنظام الذي يُفترض أن ينبثق عنه، تطوّرات كبيرة خلال القرن المنصرم، كان مآلها جميعاً الإخفاق. وهذا هو المآل نفسه الذي ينتظر نُسخِه الحالية، سواء تمثلت بالنسخة «الإسرائيلية» التي يتحدّث عنها نتنياهو بكثرة، أو أي نسخة أخرى دولية أمريكية أو غير أمريكية (إخفاق نسخة كوندليزا رايس التي عبّرت عن رأي المحافظين الجُدد على عهد إدارة الجمهوري بوش الابن، كما أيضاً إخفاق نسخة الرئيس الديموقراطي باراك أوباما)، فضلاً عن النسخ الإقليمية المتعدّدة ومنها النسخة الإيرانية التي سوّقت نفسها تحت عنوان استراتيجي، هو «استراتيجية غرب آسيا» أو أيديولوجي تعبوي، هو «محور المقاومة»، بعد أن شهدت هذه النسخة تراجعات حادّة على إثر الضربات التي تلقتها إبّان الشهور الأخيرة.

الكلام نفسه ينطبق على النسخة التركية وقد صارت حديث الجميع بعد سقوط الأسد، سواء أكانت هذه النسخة فردية تعكس طموحات تركيا وحدها، أو جاءت بالتعاون أو التنسيق مع أمريكا أو مع «إسرائيل» أو بشيء من المحاباة لروسيا، بل حتى التحايل عليها.


المحورية الإقليمية

بمنطق الاستقراء التام للمنطقة ومتغيّراتها خلال قرن وعقدين، لم نشهد قطّ وجود نظام شرق أوسطي بأي معنى أخذنا للنظام، سواء أكان مبنيا على اعتبارات التقارب الجغرافي والتماثل بين دول النظام من النواحي الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، أم وحدة الإطار السياسي ووجود خصائص بنيوية تنتظم دول النظام وتوزع القوى فيما بينها، على نحو ما كان موجوداً مثلاً على مستوى الاتحاد السوفياتي السابق والكتلة الشرقية، أو دول حلف الأطلسي وأوروبا الغربية، أو ما هو موجود الآن داخل نطاق الاتحاد الأوروبي مع شيء من التحفّظ.

غاية ما شهدته المنطقة هي سياسة المحاور وأحياناً الكتل والأحلاف، أمثال الاتحاد الهاشمي وحلف بغداد في العراق الملكي، أو محور بغداد ودمشق والقاهرة إبّان الصعود القومي بشقيه الناصري والبعثي، أو الحقبة السعودية بعد أفول الناصرية، أو المحور الخليجي بعد انتصار الثورة الإسلامية وقيام مجلس التعاون، أو المحور الإقليمي الإيراني بعد سقوط صدام عام 2003م. إذا اتفقنا على اللغة الهادئة البعيدة عن التضخيم والتهويل؛ معزّزة بنتائج المسح الاستقرائي للمنطقة خلال مئة وعشرين سنة، فإن ما نواجهه الآن هو انكفاء لمحور وصعود لآخر، ومن المبكر جداً الحديث عن تحوّل هذا الصعود إلى كتلة سياسية متماسكة ومستمرّة، فضلاً عن أن يكون ما حصل هو مقدّمة لنظام شرق أوسطي جديد.

أجل، الطموحات موجودة على هذا الصعيد، والرغبة قائمة لدى الإسرائيلي والعربي والإيراني والتركي، لإيجاد هذا النظام، وهي موجودة لدى الأمريكي أيضاً، لكن الكلام في الوقوع الفعلي والتحقّق العملي، وهذا ما نستبعده، ليس لعلةٍ في أطروحة النظام الشرق أوسطي، وإنما لموانع حقيقية في المنطقة، ربما كان أبرزها تعدّد مرجعيات الإقليم بين العرب والترك والإيرانيين، والأهمّ من ذلك وجود «إسرائيل»، مما لا تنفع نسخ التطبيع وغيرها، بتجاوزه.

المحور التركي

الكل يتحدّث بل يجمع على أن لحظة سقوط الأسد هي بداية صعود المحور التركي على حساب المحور الإيراني، والأغلبية تُكني هذا الصعود وتومئ إليه بعودة «العثمانية الجديدة» .

الحقائق الثابتة حتى الآن، هي تراجع المحور الإيراني تحت وابل ضربات مدمّرة تستلزم مراجعات جذرية في الاستراتيجية والأدوات والغطاء الأيديولوجي، هذه المراجعة التي تسرّبت أخبارها وبدأت فعلاً على المستوى الاستراتيجي والرسمي، مع عقد البرلمان الإيراني لاجتماعين مغلقين، واحد مع وزير الخارجية، والثاني وهو الأهمّ، بحضور رئيس الحرس الثوري الجنرال سلامي وكبار ضباطه، باستثناء قائد قوات القدس إسماعيل قاآني.

من الحقائق الثابتة أيضاً، هو إخفاق روسي في الدفاع عن الحليف السوري لأسباب استراتيجية أو تكتيكية، تعود إلى أوكرانيا أو عدم قناعة موسكو باستمرار نظام الأسد، أو لصفقة لم تزل سرية حتى الآن. كما أن «إسرائيل» مستفيدة من الوضع الجديد، أياً كانت تحوّلاته، فما شيء في سوريا بات يهدّد الأمن الإسرائيلي؛ إذ بدت «إسرائيل» بين معاهدات السلام وتهديم قوى الآخرين في أمان، ليس أمامها إلا محاصرة واحتواء جيب المقاومة جنوب لبنان، لكي تتفرّغ إلى غزة والضفة.

على الصعيد التركي، لا نشك أن أنقرة حققت تقدّماً في العالم العربي عبر سوريا، جاء مكملاً لتقدّم آخر حققته في القوقاز، ومعلومات إيرانية مؤكدة تتحدّث عن اندفاعة إسرائيلية مرتقبة شمال إيران من جهة القوقاز، ولاسيّما أذربيجان، رغم تحفّظ تركيا في مماشاة «إسرائيل»، إذ أثارت رسالة نتنياهو المفتوحة إلى الإيرانيين الخميس الماضي، قلقاً في إيران، من إمكان حصول 

شيء ما. 

كما سرّبت أمريكا معلومات عن دور تركي في القرن الأفريقي، ليس فقط لمحاصرة الحوثيين في اليمن، بل أيضاً للضغط على مصر من خاصرة أثيوبيا والصومال، ومساومة السعودية على دور كبير في الخليج.

 هذه كلها مكاسب، لكنها لا تبرّر أبداً الكلام عن «العثمانية الجديدة» كإطار استراتيجي للدور التركي، فالأتراك قبل غيرهم يدركون خطورة العبث بالجغرافيا، وخرائط الصراع على حدّتها في المنطقة لم تستطع أن تغيّر من خرائط البلدان خلال مئة سنة، باستثناء ما حصل لفلسطين، ليس لغياب الأطماع، بل للمخاطر المروعة التي يمكن أن تنشأ عن هزّ الجغرافيا والعبث بحدود

 الدول.