حبيب السامر
مع التطورات المتسارعة للتقنيات الحديثة التي تحتوي على معالمَ كثيرةٍ من الأدوات والتّطبيقات التي تدخل في مجالات عدّة، يسطع بين وقت وآخر النّجم التّقني الجديد، ونتابعه بحرص وشغف لنجعله يبرق على عوالمنا ويجذبنا كثيرا نحو مداراته التي ستساعدنا في المعلومة من خلال ضغطة زرّ على "الكيبورت" لتظهر لنا قوائمُ عدةٌ نستثمرها في إنضاج بعض نماذج الكتابة وبالأخصّ التّاريخية والجغرافيّة والعلميّة، وبعض أبواب نطرقها لحظة حاجتنا إلى "العمّ" (كوكل)، وفي الآونة الأخيرة برز نجم الذّكاء الاصطناعي ليمدّ لنا ذراع العون والمساعدة في جوانبَ معيَّنةٍ.
بعد هذه المقدمة السريعة التي أردت من خلالها الوصول إلى الدور الذي تؤديه بعض التقنيات الجديدة، أقول: ممكن أن تتغير أنماط الكتابة وقد يشوبها التراجع، وهذا الخوف المشروع على أن تكون الطريقة ومحددات الكتابة التي تربينا عليها ومارسناها بإخلاص وتفانٍ غير ضرورية للأجيال المقبلة، وهنا أودّ أن أوضح ذلك من خلال تشبع الأجيال اللاحقة بالصورة التقنية أكثر من أجيالنا التي عشقت رائحة الحبر والكتابة بقلم الرصاص علىالورق.
هذا جانبٌ يلحّ علينا بالمزيد من حالات التخوّف، إذا حصرنا الموضوع أكثر في ردة فعل الأدباء عن دور الذكاء الاصطناعي في الكتابة الإبداعية، هنا تكون الإجابة مختلفة تماما، وربما، استثمرها بأسئلة أخرى: قد يسعفنا هذا الذكاء في خدمتنا للترجمة والمعلومة الأدبية، والسرعة الفائقة في إيصال تلك المعلومة في مختلف مجالاتها، وقد تظهر مشوَّهة ومنقوصة أحيانا، لكن هل يرتقي إلى عالم الإبداع؟، أقول: لا، كونه يفتقر إلى روح الكتابة والغور في المشاعر والشغف والأحلام والتدفق العاطفي والشعور بالألم والإحساس بالبهجة، وأمور كثيرة لا حصر لها، ليس من باب عاطفي ولكن قدرة الذكاء الاصطناعي على الخوض في مهام الكاتب والبديل عن الإنسان ومهاراته وتفاعله مع نصّه، ما يقوم به الذكاء يشبه إلى حدّ كبير غصن ورد اصطناعي لا رائحة له، والنص الذي يجازف أن يرسله لنا على شكل معطيات تغذى عليها واقتصرت مهمته على توليد وإنشاء خوارزميات تنتج نصّا هجينًا خاليًا
من الإبداع.
تقفز في رأسي حالة تخصّ عائدات الملكية الفكرية للأدباء للنص الهجين الذي يظهر لنا على شاشة الحاسوب أو الموبايل، إلى أين تذهب؟ ومن المسؤول عنها، ويتكرر الخوف على جهات عدة يخترقها هذا النظام التقني الذي تغذيه بمعطيات لأدباء وكتّاب مهمين، ومن هذه الجهات التي تقترن بالفن بأبوابه المتعدّدة كالرسم والموسيقى والتصوير والصّحافة والكتابة الأكاديمية ومجالات كثيرة؟، وقد يسبب ذلك فوضى كبيرة، لأن الذكاء الاصطناعي يعتمد على الأمور البسيطة والمعدة سابقاً عبر تغذية لبرامج تعكس مهاراتنا، لكنها لا ترتقي إلى فهم المشاعر والمخيال، وهنا يقع الفرق كبيراً بين الكتابة البشرية والروبوتية، مثل عطر لياسمينة حقيقية وأخرى بلاستيكية جميلة
لا عطر لها.
تقودنا هذه المعطيات إلى حقيقة مهمّة وهي الموهبة الربّانية، وصقلها من خلال التّدريب المستمرّ والقراءة المعرفيّة وتداولها في الكتابة التي ترتبط بالمخيّلة والحبّ الخفيّ الذي يتعالَق مع شغف الكاتب في توصيل مادّته الأدبيّة إلى المتلقّي لتحقيق مرجعيّات مضافة إلى الآخرين، كما هو الفنان في مختلف مجالاته الفنية، ولنأخذ مثلا الفنان التشكيلي وتعامله مع الفرشاة والألوان وأبعاد القماشة والفكرة المطروحة على خامة اللّوحة، كل هذا لا يأتي من فراغ أو تغذية عشوائية بل من روح تتجدّد في الكتابة ولوحة تشرق بألوان صاحبها. لم نكن في لحظة ما ضدّ أية تقنية مساعدة أو وسائل ووسائط تكنولوجية حديثة كونها وجدت لخدمة الإنسانية والعالم، ولكن يبقى الفرق شاسعاً بين صنيعة الإنسان وعصارة جهده ولمساته وما يسكبه من لون على لوحة الجمال وكتاب يحاكي الحياة بلغة الكاتب الموهوب والمتمرّس في مجال
تخصّصه.