أشواق النعيمي
يحتضن النمط الحواري في عالم الرواية عدداً من الأصوات السرديّة بخلفياتها السوسيولوجية المتباينة صوتاً وفعلاً، ليعبر كل منها عن إيديولوجيا متفردة تتشكل لدى المتلقي من الصورة المتكاملة للشخصية والتي تعني مظهره الخارجي وملامحه وحياته الاجتماعية، وما يحمله من رؤى وأفكار تبرز مباشرة في كلامه أو من خلال سلوكه ومسار حركته داخل نطاق السرد. وهذا ما أكده باختين في كتابه "شعرية ديستوفسكي" حول الشخصية البطولية البارزة التي تفرض حضورها متعدد الأبعاد في رسم مذهب إيديولوجي محدد. تعدد الأصوات في الرواية يخلق فضاء خصبا للايديولوجيات المختلفة لاستعراض أفكارها والصراع لإثبات وجهة نظرها بمعزل عن إيديولوجية المؤلف نفسه. على العكس من الرواية المناجاتية أو المنولوجية أحادية الصوت التي تتبنى في أروقتها السردية ايديولوجيا واحدة تسير بخط مستقيم حتى النهاية، وإن وجدت إلى جانبها ايديولوجيات مختلفة ستظهر بصورة هشة وغير مقنعة.
في رواية "فورور" للروائي نزار عبد الستار، يصارع صابر عفيف بطل الرواية الآتي من العراق بخلفيته الاجتماعية والثقافية نسقا إيديولوجيا تتبناه السوق العالمية للوحات الفنية والسياسة المالية للمزادات الكبيرة في لندن، يؤمن هذا النسق بوجوب احترام الفوارق بين طبقات المجتمع، كما يؤمن بدور الإعلام في تضخيم الأسماء الفنية لتحقيق الشهرة وكسب المال. يبرز على هامش النسق اتجاهان فنيان، يحاول كل اتجاه إثبات أفضليته في الساحة الفنية، الاتجاه التكعيبي الذي يمثله الرائد حافظ الدروبي عميد كلية الفنون الجميلة، وهو اتجاه ينحاز إلى نظرية التبلور التعدينية التي تنظر للأشياء من خلال الأشكال الهندسية، وإن الحقيقة تأخذ تمام كمالها عندما تمتلك ستة وجوه كالمكعب تماما، فلا بد أولاً من تحطيم الشكل الخارجي للأشياء وإعادة صياغتها وفق تلك الرؤية.
يحاول حافظ الدروبي في الرواية فرض النظرية التكعيبية على طلبته والانتقاص من اتجاه الفن الحديث. يقول السارد: "كان الدروبي تكعيبيا متعصبا، أراد تلقيني درسا في العبقرية غير المنظورة، لأن الأغبياء من أمثالي اعتقدوا وقتها أن الفن الحديث ما هو إلا تضخم في الإدراك البصري بسبب الماريجوانا" ويمثل صابر عفيف الاتجاه الفني الذي يرى أن المعارف تأتي من الإدراك، وإن الطبيعة هي المصدر الأساس للرسم الذي يجب أن يتضمن عنصرين رئيسيين هما الأفكار والنوايا. يتخذ صابر من لوحة دافنشي أنموذجا يجسد ذلك الاتجاه ويدافع عن قناعته بوصفه المفصل للوحة دافنشي "جنيفيرا دي بنتشي".
لا ترتبط الرواية الحوارية بتعدد الأصوات المتكلمة بل بتعدد لغاتها الاجتماعية ومواقفها الفكرية، إذ تعد رواية "قصة عرش العراق" للروائي عبد الكريم العبيدي من الروايات الحوارية على الرغم من هيمنة صوت الراوي العليم على السرد التاريخي، الرواية تحكي قصة ملوك العراق من الملك فيصل الأول ولغاية الاحتلال الأمريكي للعراق وتداعياته، يسمح الروي للشخصيات باستعارة صوته في بعض المشاهد من دون فرض وصايته عليها، ينقل بأسلوب ساخر صوراً مقطعيّة بتفاصيل تنطق الفكرة وتلتقط الأحاسيس الداخلية للشخصيات ببعديها الجسدي والنفسي، وما تظهره الوجوه من انفعالات وحركات. ايديولوجيا الاحتلال الأمريكي للعراق والحكم من وجهة نظر بريمر، النفوذ البريطاني وتنصيب الملك فيصل الأول، انتفاضة عشائر الفرات الأوسط، سياسة الملك غازي وتوجهاته القومية التي لم تعجب الإمبراطورية البريطانية، سياسة نوري السعيد والوصي، انقلاب الكيلاني وثورة الرابع عشر من تموز وما تلاها من أحداث لغاية عام 2003 تاريخ الاحتلال الأمريكي للعراق. سردت بصيغة العرض المسرحي الكوميدي وهو يقدم من منظور محايد الأحداث التاريخيّة متسلسلة بتفاصيلها الدمويّة. كل شخصية سياسية مرت في تاريخ العراق كانت ترتبط بفكر ورؤية سياسية محددة ولها منهج وأتباع. الاختلاف الإيديولوجي في الرواية كان يسير في خط أفقي حتى النهاية.
وتعد رواية "فضاء ضيق" للروائي علي لفتة سعيد أنموذجا للرواية المنولوجية لتضمنها موقفا فكريا واحدا رافق أحداث الرواية حتى النهاية. فالحوار عند باختين هو حوار أفكار ومن التضاد بين الشخصيات وظهور الأفكار تظهر حيادية الكاتب. تختلف ميول وتوجهات محسن وعلاء وحليم أبطال الرواية وتتفق على رؤية واحدة تتسم باليأس والإحباط من الواقع السياسي، يحلم الثلاثة بمجتمع آمن تسوده قيم العدالة والحرية. الايديولوجيا التي تربط شخصيات الرواية هي في الواقع ايديولوجيا الكاتب المشارك في بطولة الرواية بشخصية محسن، وهو يسلط الضوء على جزء من مسيرته الثقافية وانجازاته الروائية. قدمت الرواية من وجهة نظر الكاتب المطلقة بالحضور الضمني والتحكم بخيوط السرد من خلال راوٍ عليم يجمع بين الضمير المخاطب الموجه لمحسن وهو يروي له حكايته، والضمير الغائب لباقي شخصيات الرواية.
وعلى الرغم من حضور التعدد الصوتي بمستوياته الاجتماعية، تنتمي رواية "عازف الغيوم" لعلي بدر إلى نمط الرواية المنولوجية. يحلم نبيل بطل الرواية عاشق الموسيقى الكلاسيكية وأفلام البورنو بالحياة في أوروبا حيث المدنية الفاضلة التي تحدث عنها الفارابي، تأثر نبيل بنظرية ماركس في التقسيم المجتمعي وتحديد ما يعرف "بالطبقة الرثة" في كتابه الايديولوجيا الألمانية "في الحكم على بعض الطبقات الاجتماعية التي تعيش على الهامش. تسير إلى جانبه ايديولوجيا مناقضة تماما تمثلت بالجماعة المتطرفة في الحي السكني حيث كان يعيش في بغداد. تعكس حواراته مع رئيس الجماعة أساليبهم الوضيعة وسلوكهم العنيف مع كل من يختلف معهم في الفكر والمظهر. ويرتبط بذات الفكر صاحب المقهى السلفي وجاره التركي المتطرف في حي المهاجرين في بروكسل. يرافق صوت نبيل أصوات أخرى، منها صوت الأب الذي يمثل الفكر الجمعي وهو ينادي بصعوبة تخلي الفرد عن مجتمعه والعيش خارج حدوده، وأي محاولة لهجره سيكون مصيرها الفشل. وعلى النقيض يأتي صوت العم الشيوعي الذي نجح في الإفلات من المجتمع والتأقلم مع الحياة في روسيا بقبعته التي تشبه قبعة لينين وأسلوب حياته المترف وسلوكه المتحرر، يعد صوت العم ترسيخا لصوت نبيل. تؤكد الرواية على انحطاط الأفكار السلفية وجشع المتشددين وهشاشة مواقفهم أمام الفكر المنفتح على الحياة حتى وإن لم تكن مثالية. يشكل الصراع غير المتكافئ بين الايديولوجيات داينمو الحدث الذي ينتهي ببلورة المعنى وإيضاح مقاصد النص التي أراد الكاتب إرسالها للمتلقي، وفرض رؤيته الخاصة وموقفه تجاه الواقع عبر سلطة الكتابة.