مسرحيَّة الجدار.. سايكولوجيا الذات بين التعفف والفساد
د. علاء كريم
عديدة هي الوظائف التي يطرحها المسرح، ويقدمها عبر مجموعة الأفكار والمفاهيم لأجل معالجة قضايا فلسفية ونفسية واجتماعية تلامس جزئيات الحياة اليومية، والتي تقترب من حياة الإنسان وهمومه وطموحاته، تتم معالجة هذه الأفكار حسب أهميتها عبر التمثيل المسرحي. وهذه المعالجة تنزاح إلى العامل النفسي الذي تكمن فعاليته في مساعدة الفرد على تفريغ مشاعره وانفعالاته، وقد يأتي ذلك عبر تأثر الفرد بالشخصية، ومن ثم أداء أدوار تمثيلية لها علاقة بالمواقف والأحداث التي يعيشها الإنسان في الماضي أو الحاضر أو حتى في المستقبل.
هذا برأي ما أقدم عليه مخرج مسرحية (الجدار) الفنان سنان العزاوي، عبر معالجة فكرة النص المسرحي للمؤلف (حيدر جمعة)، والذي رسم الجمل الحوارية ضمن منظومة النّص المتحول إلى عرض، ليثبت أن المؤلف هنا باث لفكرة يمكن لها أن تجمع أو تجذب مجموعة من الجمل والأفكار والمعتقدات التي يرويها على لسان شخصياته، وتتحول بعدها إلى حركات يقوم بها الممثلون، وِفق منظومة وعي المخرج الذي نظم الحركة بإيقاع متوازن، أحياناً يكون متسارعاً وفي أحيان أخرى متباطئاً، ومن ثم جميع هذه الأفكار تحولت عبر التقنية الإخراجية للعرض المسرحي، إلى جملة من التفاصيل التي كانت قريبة للحكاية في النص الأساس، والتي أعتقد تمت معالجتها عن طريق منح الممثل الحرية عند أداء دوره، من أجل تجسيد الفكرة.
مسرحية الجدار صراع الذات بين التعفف والفساد، عرض مسرحي مغاير، قدم فيه الممثلون جهداً كبيراً جسّد الأزمات التي حدثت وما زالت تحدث في مجتمعنا، كما جسد هذا العرض المسرحي حالات التردّي والاضمحلال الفكري والثقافي والديني والأخلاقي، وبيّن طبيعة الفساد وتداعياته التي تؤدي إلى نتائج سلبية، وأيضاً تعمل على تدوير هذا الفساد وتعويمه، وقد اعتمد هذا الصراع على محاكاة الشخصية درامياً لمشهدية الفكرة التي يمكن من خلالها خلق مشاهد تلامس وقائع جسدت بفلسفة أدائية متفردة، لدرجة أن أداء الشخصيات خلق دهشة عند المتلقي، تمثلت هذه الدهشة في الجرأة التي يمتلكها الممثل (يحيى إبراهيم) وأيضاً (دريد عبد الوهاب) فضلاً عن مجموعة الممثلات المبدعات، (آلاء نجم، لبوة صلاح، إسراء العاني، ريهام البياتي، زمن الربيعي، رضاب أحمد، رنا لفته). كما تمثلت الدهشة في جماليات الأداء الذي جسد الضغوط التي تعرضت إليها كل شخصية ونتجت عنها الأزمة النفسية، ليظهر هنا دور المخرج في رسم مساحة يتمكن بوساطتها الممثل من تفريغ شحنات الغضب والانفعال الداخلي الذي سيطر على الشخصيات، وأيضاً ربط الأحداث بطبيعة الحكاية التي قدمها الممثلون، كلاً حسب دوره، وهو بالتالي تخفيف لمعاناة الشخصية وتهدئة الصراعات النفسية داخلها.
قد يرفض المتلقي الطرح المباشر في المسرح المعاصر، لكن أحياناً ينزاح المخرج إلى المباشرة حتى يلفت النظر إلى جوهر المشكلة التي تعاني منها الشخصية في حياتها العامة، والتأكيد على المعاناة والاضطرابات النفسية لها، ومن ثم وضع مرتكزات، تحقق الحرية للممثل في الكشف عن الشخصية بما يمتلكه من عواطف وأحاسيس، وتحقق أيضاً عبر هذه المباشرة متنفساً للخلاص من جميع العقد التي تعاني منها، وفي استمرارية الأداء ستصبح الشخصية مختلفة وتعيش بشكل متزن داخل البيئة التي خلقت منه كائناً شاذاً.
أرى أنَّ مسرحية الجدار هي تطبيق للفعل السايكولوجي الذي يكاد الفرد يفقده بسبب الضغوط والمتطلبات الحياتية المعقدة في المجتمع، نظم المخرج فكرة المؤلف وفق دلالات قصدية وليست اعتباطية كما يفسرها البعض، الأحداث التي طرحت رسالة يمكن بوساطتها معالجة العقد التي هيمنت على الإنسان لدرجة أنه لم يستطع الفكاك منها، وأحياناً يعود بسببها إلى مراحل طفولته وما مر عليه من مواقف وعادات سلبية. وهنا تأتي أهمية هذا العرض الذي ممكن أن يعتمد كعينة لعلاج إشكاليات المجتمع عبر الطرح المباشر للخلاص من التردد والقلق والخجل وغيرها من الأحداث التي لا يستطيع الإنسان أن يطرحها في مجتمعنا المتشدد والذي لا يتقبل جرأة هذا الطرح. كما عمل المخرج على توظيف آليات محددة للتعامل مع الصراعات الداخلية لكل شخصية، إذ شاهدنا استبدال الأدوار في بعض الشخصيات، وتقمصها أدواراً أخرى، كان الهدف منها تفريغ شحنات الغضب بداخل الشخصيات عبر الحوار الذى عجزت عن طرحه في أوقات سابقة.
لا تكتمل مثل هذه العروض إلا بتشاركية جمهور يمتلك رؤية خاصة ووعياً يسهم في استمرارية العرض المسرحي إلى أكثر من (150) دقيقة، ومن ثم يتم طرح الأسئلة وكذلك تبادل الآراء حول الهدف من الموضوع الرئيس لمسرحية الجدار، وعليه، ما هو الغرض من تعدد الأبواب في جدران ثابتة؟ وما قصدية تحريك الجدار في خلف المسرح فقط؟ وما الغاية من تسلق الجدار لمرات متعددة وبجوانب مختلفة؟ ولماذا هذا التعسر في الحمل حتى أصبحنا نشعر بهذا الألم؟ وهل للحوارات دلالة على فعل مغاير بعيد عن المعنى المطروح؟ قسم من مجموعة أسئلة أحدثت جدلاً واسعاً بين الجمهور الذي ذهب إلى ما هو أبعد من المادة الفنية، وانزاح إلى معالجة التصنيفات الجمالية ما بين المأساوي والمضحك والدرامي. وعليه، أثبت العرض المسرحي بأن الرؤى والأفكار في العرض المسرحي عندما تكتمل، يكون هناك تواصل يضع المتلقي ما بين تصورات الكاتب وممكنات المخرج وأدوات الممثل، للوصول إلى مخرجات غير تقليدية بقصد اكتشاف لغة مسرحية متفردة تتمرد على التقليدي وتتجه للبحث في توظيف بنية العرض عبر عناصر الفضاء والمكان والمنظومات الأخرى التي تكون متقابلة أو متشاكلة حاضرة وغائبة لتكون النتائج متعالية القيم. رسم المخرج طرقاً متعددة لمحاكاة الجدران، فضلاً عن استدعاء الشخصيات لفترات قاسية من حياتها، وإظهار ذكرياتهم وإثارة عقدهم بشكل يجعلهم يتخلصون تدريجياً من هذه العقد الحبيسة في دواخلهم، والتي شكلت عندهم عقداً نفسية لازمتهم نتيجة الفعل الخطأ في حياتهم الخاصة.
كما أنَّ هناك جملة من التفاصيل التي أظهرت وأضافت للعرض المسرحي تصورات مكملة لرؤية المخرج والمؤلف، تمخضت هذه التفاصيل عن نتاجات جديدة تختلف عن نتاجات الأفكار المطروحة، وأعطت للمتلقي مساحة للتأويل والخروج بنتائج تحرك في وعي المتلقي جملة من القضايا التي تهم الوعي الحاضر لزمن التلقي. تمحورت هذه التفاصيل في الصوت الأوبرالي للفنانة (نعمت عبد الحسين) وفي تشكيل السينوغرافيا للدكتور علي السوداني وكيروكراف علي دعيم وتأليف الموسيقى رياض كاظم. كما أكدت بنية العرض المسرحي (الجدار) التحولات الاجتماعية والنفسية والمعرفية المرتبطة بحياة الإنسان منذ أزمنة بعيدة، وحاول كادر العمل أن يدعو الجمهور ليعيش تحولات المعنى، ويخرج منه بتأويلات تنتج رؤى مغايرة للواقع الحياتي. هذا العمل من إنتاج الفرقة الوطنية للتمثيل – دائرة السينما والمسرح.