تحت سطوح الرغبة

ثقافة 2024/12/18
...

 د.جواد الزيدي



يمتد سِفر الفنان سعد علي طويلاً عبر نقاط العبور ومحطات القطارات والمطارات ضمن اشتباك فكري وجمالي لكي يصل مرافئه الأخيرة، بدءاً من الديوانية العام 1953 ولادته إلى فلورنسا الفرنسية حيث أكمل دراسته للفن في أكاديميتها العام 1981، وما بينهما من تعليم وتدريب وتكريس ملامح مذهب أو مدرسة فنية ينتمي إليها. لذا كانت البدايات ممارسة الرسم في وقت مبكر من حياته ومشاركاته الرسمية في المعارض الجماعية عندما مكث ببغداد سبعينيات القرن الماضي. وخلال مغادرته المبكرة وطنه الأم حمل مجموعة رؤاه وتصوراته الفكرية وشيئاً من إرثه الفني والثقافي، ليضفي على تجربته ملامحها العراقية إزاء تأثره بالمدرسة الواقعية البغدادية التي اكتملت فصولها بدءاً من الواسطي إلى مجموعة فنانين عاصر تجاربهم، ومحاولتهم النزوع إلى هذه المدرسة وتجلي سماتها في تجاربهم الرسومية، بيد أن لكل منهم اشتغالاته الخاصة ومتناولاته التي تميزه عن غيره في ضوء زاوية النظر المختلفة لتثوير مفردات التراث البغدادي من خلال اللون والمفردة والرمز الأسطوري، واستحضار الحكايا الشفاهية الممثلة في الحياة الشعبية واستلهام ما جاءت به حكايا "ألف ليلة وليلة" بمرجعياتها البغدادية المُتعينة أو العراقية في فضائها العام، ومن ثم تعشيقها بآليات الحداثة الأوربية التي تعلمها وآمن بها في دراسته بمختلف الأمكنة التي وطأتها قدماه.

إن مسيرة سعد علي تكمن في إنزياحاته على مستوى الشكل وتحولاته من خلال التعالق والتشاكل مع مشاهداته العديدة واستمكان المناطق غير المأهولة في الرسم. فمن مدرسة بغداد الواقعية إلى (صالون الفنّ) في أمستردام الذي يعرض لجماعة (الكوبرا)، حيث أوجد له مكانه الخاص وحضوره بينهما من خلال مشاركتهم العروض الفنية، بيد أن حنينه للموروث العراقي واستحضاره في لوحته الرسومية ظل هاجسه الأول، محاولاً ترجمة نصوص القص الشفاهية إلى خطاب مرئي يُمكن من خلاله التشاكل مع فضاء الآخر الشعبي. فمن عتبة لوحاته الأولى "العنوان" استطاع الإحالة والتبشير في المساند الفكرية لخطابه تمثلت في عناوين مباشرة إسماها "ألف ليلة وليلة" أو ما يقع بينهما من عناوين تورد بوصفها عتبات فرعية مثل "آدم وحواء على البساط الطائر، وجزيرة الحب" وغيرها التي تحكي مغامرات الشاطر حسن ومرويات الليالي الألف من خلال المشاهد السحرية التي رسمها ممثلة بإقتران الرجل بالمرأة في لحظة وجد، وأطباق الفواكه، والطيور المحلقة بأجنحتها البيض، ومشاهد الطبيعة الجميلة خلف كل كتلة رئيسة ومهيمنة.

 يعتمد أسلوباً رومانسياً في صياغات قصص العشق الرهيف والهيام التي يريدها عراقية المرجعية وإن تمظهرت بأطر غربية أوروبية، محاولاً بهذه الاسهامة من صياغة أسلوبية قائمة على الحلمية، بمعنى أنه يستثمر الحلم في صياغة خطابه الفكري الذي يتجلى عبر الرسم، حيث يلج الحلم من أوسع أبوابه من خلال استحضار طاقة التخيل التي يمتلكها وتبرير صور التعالق بينها وصورة المرويات الشرقية، حتى تتحرر الصورة من قيد الواقع ومقارباته المرئية إلى صورة خالصة مستوحاة من ذلك البعيد المُهيمن على خطابه عندما إستدرجه إلى فضائه الخاص، محاولاً التوفيق بين مستويات (الحسي والحدسي) في إنتاج الصورة. فالإنسان لديه يغفو على لذائذ الجسد وخفاياه غير المرئية، إذ يقوم بعملية الحفر الجميل يتماثل مع مهمة الأركولوجي الباحث عن (المعرفة البصرية) في مؤسساتها العميقة، ليطلعنا بعد ذلك على ما يكمن تحت سطوح الرغبة، متخذاً من العلاقة بين الرجل والمرأة مضموناً أساسياً يبني عليه أعماله في ضوء استثمار الدلالة الرمزية التي يتحرك بها الإثنان كل بمفرده، أو من خلال المزاوجة لانتاج ثنائية الحياة ومعادلتها الوجودية، ورمزيات الخصب والأمومة والولادة وكل ما يتصل بها واقترانها بفاعلية الأسطورة العراقية، أو ما يعتمر داخل التراث البغدادي والعراقي المعاصر من خلال تلك التجليات. ولهذا كانت لوحته مزيجاً بين الفكري والحدسي والدمج بينهما على صعيدة صورته المرسومة.

 وبحدود التقنيات التي ينضوي تحتها خطابه، فأنها تميل في أغلبها إلى الشفافية والرقة الكبيرة التي يُمكن أن يكتشف من خلالها الروح الخفية لعوالم أُخرى تُعبر عن رغبات مكبوته إزاء ما فقده في غربته عن الوطن والأهل وفرضيات تلك الحوادث على سجل حياته اليومية التي تتجلى ضمناً في خطابه الرسومي، وهذا غير منفصل عن حلمه الإنساني، وكأنه ملحمة قصصية ترويها الملاحم الكبرى، يستطيع من خلاله ترويض أشد الإحساسات توتراً عندما ترتبط بالمشاعر والوجدان الداخلي، يتحرك في أحيان كثيرة في ضوء المبدأ الاستعاري لوحدة الوجود أو  وحدة الكائن البشري والترميز لإنسانيته التي تمثلها حالة المرأة الملتصقة على الدوام بالرجل في ضوء العودة إلى الميثولوجيا واليقين الشعبي الذي استمع إليه وقرأه في المرويات الشرقية والقصّ الشفاهي الذي نال منه في طفولته 

وصباه.

ولكي يمسك بشفافية الصورة والخطاب لابد من التعامل مع منظومته اللونية بشكل مختلف ينتمي إلى طبيعة الخطاب البصري الذي حاول تكريسه عبر هذه السنوات وخلق ما يدعى بالأسلوبية، فإنه أتخذ من أحادية اللون وتحليله إلى أطيافه المتعددة أساساً في تلك الصياغة والمقترنة أيضاً باقتصاد اللون، إذ لا إفراط باللون على حساب جمالية الشكل والمضمون، على الرغم من شحنة الانفعال الكبيرة التي يحتفظ بها شكله المرئي في ضوء كل ما تَقصده، حتى يُفضي إلى أُسلوبه الخاص الذي يحيل إلى تقنيات الحفر "الكرافيك" بما يفرضه اقتصاد اللون وتكثيف الشكل في بعض مسارات السيرورة

الجمالية.