الفلسفة.. مشروعٌ لاستنزاف الجهل

ثقافة 2024/12/18
...

 حازم رعد

بدايةً لابد أن نثبت نقطة جوهرية في المقام، وهي أن الفلسفة ما لم تكن مشروعاً تعكس ممارستها "كنشاط عقلاني في التفكير والتصرف" رؤية وخطوات واستراتيجيات لتحقيق أهداف فعلية في الواقع، فإنها ستكون مجرد تاريخ مقروء مثل التواريخ الأخرى. من هنا أجد القول صحيحاً بأن الفلسفة مشروع مستقل يوازي المشاريع الأخرى التي تسعى لإيجاد إجابات عن الاسئلة الوجودية الكبرى، وتحقيق طرق عيش مناسبة للإنسان وأساليب بواسطتها يمارس مختلف شؤون حياته،

 وأن واحدة من المهمات الملقاة على عاتق الفلسفة هو خفض مستويات التطرف، وتقويض المساحات التي تشغلها العصبيات "العرقية والدينية وعصبيات الدم" وهذا جزء من المشروع الكبير الذي تحمله الفلسفة في سيرها الطويل عبر التاريخ. 

يمتاز التفكير الفلسفي بأنه تفكير مرن قابل للقراءات المختلفة (في مقابلة أنماط من التفكير تتميز بأنها صلبة، فهو "التفكير الفلسفي" كما يقال منفتح على الغير ويعترف له بمساحة من الحقيقة، وفي امتلاك فكرة مختلفة، وكذلك يعترف له بحق التعبير عن الرأي والتصورات) وهذا ما يجعل من الفلسفة شاخص يرمى من اتجاهات عديدة تخشى هذا اللون من الفكر والدراسات، لأنه يقوض مساحتها ويحجم من دورها في الواقع "الاتجاهات الكهنوتية والايديولوجيات ورجال السلطة" وغيرهم، ولعله في بعض الأحيان تعقد تحالفات لمواجهة "المد الفلسفي". 

إن المتلقي يلاحظ عند أول استقباله للأفكار الجديدة التي تفد على ذهنه الفرق الجوهري بين الفكرة الفلسفية المأخوذة عن الواقع، والتي تحاول قدر الإمكان أن تحكيه وتعبر عنه، وبين الأفكار الأخرى الاختزالية التي تحتكر الحقيقة وتعتبر الآخر مخطأ من دون تردد أو ترك مساحة للمختلف يجد فيها حضوره كإنسان على أقل تقدير، في هذه المنطقة تحديداً تنبعث الفلسفة كفكرة أصيلة في عقل الإنسان على أنها شيء مختلف لا يمكن مضاهاته بغيره من الأشياء. 

النزعة الاستدلالية هي ما يجعل الفلسفة في وضع مرن غير متصلب عند تناول الموضوعات ونقاشها، وخاصة في دائرة النقد، وهو أخصب مجالات الفلسفة خطورة وانتاجاً، والاستدلال نقيض طبيعي الدوغمائية التي تتوسل التبرير لفرض رؤاها وتصوراتها عن العالم والأشياء والأحداث لا اقامة الحجة والبرهان والدوغما من مصاديق نشاط الجهل المصطنع الذي يقوم على صناعته أشخاص ومؤسسات مخصصة في هذا المجال، فتشديد الفلسفة على النزعة الاستدلالية لهو نشاط عملي لمكافحة الجهل وتقويض مساحته في واقع الإنسان.

كما أن هناك النزعة النقدية التي قلنا عنها بأنها اخصب وأخطر أدوات فعل التفلسف لمواجهة الجهل والخرافة ونضال السائد بدأً من بيان قيمة الأشياء والتمييز بينها، وصولاً إلى الحفر داخل النصوص والأحداث بحثاً عن اجابات جديدة للأسئلة والشكوك والاشكاليات المطروحة، وهذه الرغبة في الفحص وبيان قيم الأشياء والكشف عن المسكوت عنه، لهو أوضح معالم استنزاف الجهل وتجفيف بؤره ومحاولات القضاء عليه. 

إن الفلسفة ومن خلال نزوعها الاستدلالي والنقدي تقطع الطريق أمام بواعث الجهل أو التجهيل، وتسهم بإظهار وعي جديد مختلف عن السائد، والمتابع لتاريخ الفلسفة سيلاحظ أنها اعتمدت كلياً على هاتين الاداتين في مباشرة الأحداث والواقع بداً من طاليس الذي غير مسار تفسير ظواهر العالم من المثيوس إلى اللوغوس، وتحققت بذلك طفرة نوعية على مستوى الفهم للكون ومسار ظواهر الطبيعة وبناء قراءة جديدة لمجرى الأحداث والأشياء بدلا من تلك القراءة التي اعتمدت على الخرافات والأساطير، مروراً بسقراط الذي أعلنها حربا ضروسا ضد المفاهيم المغلوطة والفهم المشوه للحقيقة عند الاثينيين من خلال التزامه بمبدأ فلسفي أساسي وهو اعطاء الأشياء حدها الماهوي "أي تعريفها" للكشف عن هويتها الحقيقية وتبديد ما يحوم عليها من وهم وتصورات مغلوطة "إن تحديد المفاهيم يسهل عملية فهمها، كما هي من دون تسرب الجهل إلى ساحتها، ومن ثم العمل بها من دون تخبط أو ارتباك". وأرسطو الذي جعل الواقع الموضوعي والتقاطاته وصوره محطة لتثبيت الحقيقة وصدقها وهو بذلك يضع مسماراً آخر في نعش الجهل ويسهم في مشروع الفلسفة الكبير لإنهائه ذلك المشروع الذي تقلد الفلسفة جميعهم دوراً وعملاً فيه لتأدية مسؤوليتهم الفذة في "أعمال العقل والفهم وصناعة المعرفة وبناء الحياة". واستمر هذا المشروع من دون انقطاع حتى يومنا الذي نحن فيه تعمل الفلسفة على استنزاف بؤر ومساحات الجهل من خلالها مشغلها الحثيث ببث الوعي وتعميم المعرفة ومواصلة التفكير والنقد وما إلى ذلك من نشاط لتحقيق غايتها السامية وهي الكشف عن الحقائق، وبيان وجه الحقيقة الناصع وفضح الجهل وإيقافه والاقلال منه.