قلق المتنبي بين القيادة والانقياد

ثقافة 2024/12/18
...

  أحمد الشطري


لا شّك أن أبا الطيب المتنبي يمثل ظاهرة شعريّة فريدة في الأدب العربي، وهو أمر لا يختلف عليه اثنان، وليس أدل على ذلك من بقائه كل هذه السنين مدار بحث وموضع اشتغالات نقدية لن تتوقف، فجواهر شعره الثمينة المختبئة والمتجددة التوهج لن تنفد ولن ينضب أو يخبو ألقها، ولعل هذا هو مصداق لقوله: (أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها/ وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ).

بيد أن اختصام الخلق وسهرهم لم يقف عند تلك الشوارد فحسب، بل إن سيرته وحياته بكل تحولاتها كانت وما زالت تشغل الباحثين، وتحفزهم للغوص في بحارها المترامية الأطراف، ولم تكن تلك الحياة منفصلة عن شعره وما فيه من خصائص فنية وأسلوبية، بل هما مترابطان حتى ليبدو للمتلقي أنْ لا منفذ للتباين بينهما. ومن بين شوارده الغزيرة، التي تعكس صورة من صور حياته الإشكالية، هذه الأبيات الشعرية الثلاثة التي تستدعي التوقف عندها طويلا، والتي يقول فيها: (أَلِفتُ تَرَحُّلي وَجَعَلتُ أَرضي/ قُتودي وَالغُرَيرِيَّ الجُلالا/ فَما حاوَلتُ في أَرضٍ مُقاماً/ وَلا أَزمَعتُ عَن أَرضٍ زَوالا/ عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي/ أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالا).

في هذه الأبيات الثلاث يقدم لنا المتنبي سرديّة متكاملة من حيث البناء والثيمة. ورغم الترابط السياقي بين الأبيات، بيد أنها تنساق إلى نتيجة واحدة يجسدها البيت الثالث، والذي يتحدث بشكل مباشر عن القلق، وهو ما يمثل ظاهريا النتيجة أو المصب العام الذي تصب فيه دلالة الأبيات التي سبقته، أما واقعيا فهو يمثل السبب الأساس في حالة عدم الاستقرار وألفة الترحال، أي أنه يعود بنتيجته إلى الأبيات التي سبقته، في عملية دوران للأسباب والنتائج، أو هي عملية تساقي بين الطرفين، طرف البيتين الأولين وطرف البيت الثالث.

وللقلق عدة تعريفات باعتباره حالة من الاضطراب النفسي قد تتحول في بعض الأحيان إلى حالة مرضيّة، وفي حالات خاصة قد يصبح حالة صحية وخاصة في ما يسمى بالقلق 

الإبداعي.

 يعرف استاذ علم النفس والطب النفسي الأمريكي الدكتور ديفيد بارلو القلق: بأنه "حالة مزاجية موجهة نحو المستقبل وفيه يكون الشخص على استعداد لمحاولة التعامل مع الأحداث السلبية القادمة"، أما الحالات المفرطة من القلق فهي تعد حالة مرضية، ويصنفها علماء النفس تحت عنوان(اضطرابات القلق). ولكنه يبقى في الغالب حالة طبيعية قد تواجه الإنسان في كثير من المواقف، وخاصة تلك التي تتحد فيها نتيجة ما تمس حياة أو مستقبل ذلك الفرد، مثل تلك التي تواجه الطلبة في الامتحان، أو تواجه الفنان قبل الصعود على خشبة المسرح، أو الشاعر في أثناء كتابته القصيدة أو قبل إلقائها.  بيد أن قلق المتنبي من نوع آخر، قد يرتبط بطبيعة نشوئه وسيرته الحياتية، وطموحاته المتعددة، وتفوقه الإبداعي، وكل هذه الأسباب متضافرة هي التي جعلت من شخصيته متفردة في تصرفاتها وعلاقاتها ونبوغها وأسرارها التي كانت وما زالت مدار بحث الباحثين واستقراءاتهم واستنتاجاتهم المختلفة. 

في الأبيات الثلاث هذه صورة مجسمة من صور عديدة ومختلفة تتركب منها شخصية المتنبي، تلك الشخصية الإشكالية في كل شيء، في النسب والسيرة وفرادة الإبداع والغموض العقائدي، وضبابية الصورة الاجتماعية والأسرية، وغير ذلك مما لم تتكشف ملامحه بشكل دقيق، وبقيت كل الاستنتاجات والتقريرات مجرد احتمالات تقترب وتبتعد بذات النسبة عن حقيقة الرجل. في قراءتنا هذه سنحاول استنطاق هذه الأبيات كمحاولة لرسم صورة وإن كانت محتملة لجانب مهم من طبيعته النفسية، وفقا للمعطيات التي تبرزها أمامنا مدياتها المتنوعة.   

ويبدو أن البيت الثالث (على قلق...) بيت قائم بذاته باعتباره ينطوي على معطيات متعددة، سواء عبر ما جاء به من سياق أو من دونه:

ويتمثل المعطى الأول في أنه يعكس لنا صورة للحالة النفسية للمتنبي، تلك النفس التي يحيط بها القلق الدائم؛ وإذا عدنا إلى البيت الذي سبقه سنجد أن هذين البيتين يمثلان عِلّتين متبادلين، فالأول عِلّة في الثاني والثاني عِلّة في الأول.

وكيفية ذلك أن قلقه الدائم يمنعه من المقام وفي الوقت ذاته يمنعه من الرحيل، وهذا التردد وعدم المحاولة في حالتي الإقامة والرحيل هما علة القلق، مثلما أن القلق علة فيهما، إذن نحن أمام عملية تساقي بين حالتين حالة القلق وحالة عدم المحاولة، و هما في ذات الوقت نتيجة في البيت السابق كما أنَّ البيت السابق نتيجة فيهما: (ألفتُ ترحلي وجعلتُ أرْضي/ قَتودي والغريريَّ الجلالا)، والقتود: خشب الرحل، والغريري: الجمل، والجلال: الضخم.

المعطى الثاني: هو ما يتمثل برسمه لصورة القلق، فيشبه حالته كأنه جالس أو راكب على الهواء، أو لنقل بأنه طائر في الهواء ومن عادة الأشياء التي  يحملها الهواء أن الهواء هو من يتحكم بها، ولكننا نجد أن المتنبي هو من يتحكم بالهواء فهو يوجهه جنوبا أو شمالا، وهو ما يرشد إليه فعل (أوجهها)، وهذه بحد ذاتها تعكس لنا صورة أخرى، وهي أنه رغم القلق المستحكم عليه والمتحكم به، إلا أنه يأبى أن يسلمه قياده، وإنما هو الذي يبقى متحكما بالقلق، وهي واحدة من الصور الخفية لنرجسية المتنبي ولتضخم الأنا المهيمنة على كل خطابه، والمتغلغلة في تركيبته النفسية، تلك الأنا التي لا تقبل بأن تستسلم أو تقاد من 

غيرها.

المعطى الثالث: ان المتنبي يرسم لنا صورة للقلق. مشبها إياه بالريح وما في الريح من انعدام ثبات، فهي لا تستقر على حال بل هي فعل متردد، كل لحظة يميل إلى جهة إذا جردنا فعل (أوجهها) من صيغة التحكم الإرادي، ليصبح (توجهني) وهو ما ينسجم مع الحقيقة الفاعلة للقلق، إذ أن الأمر الطبيعي أن القلق هو المتحكم بالقرار وليس الذات القلقة. واستخدام المتنبي لفعل(أوجهها) بدل (توجهني) لم يكن اعتباطيا، ولم تمليه عليه متطلبات الوزن؛ لأن كلا الفعلين (أوجهها وتوجهني) مبنيان على نفس الكم الحركي، بمعنى أن كليهما على تفعيلة مفاعلتن، ولكن كما قلنا سابقا أن الأمر متعلق بشخصية المتنبي، و(الأنا) المتضخمة التي تتحكم بخطابه، والتي تحولت إلى واحدة من أهم السمات الثابتة والواضحة في البنيات الأسلوبية 

لشعره.