إشكاليَّة العلاقة بين الهويَّة الوطنيَّة والهويات الفرعيَّة

آراء 2019/07/01
...

عبد الحليم الرهيمي
 
تمثلُ العلاقة بين الهوية الوطنية والهويات الفرعية في كثير من البلدان ومنها العراق إشكالية جدليَّة وتاريخيَّة وتعبر عن واقع موضوعي معطى، ولذلك حظيت دائماً باهتمام الباحثين في العلوم الاجتماعية والسياسية، اهتمام يتركز ويدور حول مسألة كيف يمكن أنْ تشكل الهوية الوطنية لبلدٍ أو وطنٍ محددٍ هويَّةً جامعة وشاملة للهويات والثقافات المتعددة وبما يساعد على تكاملها واندماجها اجتماعياً من دون المس بخصوصيتها أو تجاوزها بل، وخلافاً لأي إلغاء أو تجاوز، تقدم هذه الخصوصيات والاحتفاظ بها، بل جعلها وتعددها موضح قوة وإغناء لبقية الهويات، لا سيما الهوية الوطنية الجامعة التي تعبر عن الوحدة الوطنية للبلد.. فبم وكيف تجلت هذه الإشكالية في العراق؟
قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة العام 1921 لم تكن مسألة الهوية الوطنية مطروحة بسبب افتقاد المقومات الأساسية لوجودها وذلك خلافاً للعديد من بلدان العالم التي دخلت عصر الهويات القومية والوطنية اعتباراً من منتصف القرن التاسع عشر حتى أصبح القرن العشرون يعدُّ قرن تلك القوميات والأوطان في جموحها الأعتى حسب الباحث الاجتماعي الراحل فالح عبد الجبار 
(ت 2018). 
وإذا كان التعريف العام لمفهوم الهوية للقوميات والجماعات انها تحدد نفسها ووجودها بسبل شتى، والثقافة هي أداة هذه التحديد، فإنَّ الهوية الوطنية تتحد وبمساحة جغرافية من الأرض تجتمعُ فوقها مجموعة من البشر وتؤسس دولة لها مؤسساتها وقواعد وعادات تنظم شؤونها (إنْ لم تكن دساتير) أو أنْ يكون لها علمٌ ونشيدٌ وطنيٌ بعد حركات الاستقلال الوطنية منتصف القرن العشرين المنصرم. لذلك فإنَّ تأسيس الدولة العراقية الحديثة على أرض العراق – الوطن تشكل الوعاء المادي للجماعة الأمة.. القوم) و هذا أظهر الحاجة الى آيديولوجية أو نظام قيم جديدة هو القومية أو الوطنية التي تعلي شأن الأمة، وبذلك يضيف عبد الجبار: (أصبح العراق بذلك دولة إقليمية تبحث عن أمة وليس أمة (جماعة قومية) تبحث عن دولة)، وهو الأمر الذي دعاه للاستنتاج بالقول: (بوسعي المجازفة بالقول إنَّ أزمة بحث العراق عن هوية العام 1921 لا تقل حدة عن أزمة بحثه عن هوية حالياً).
هذا التأسيس المفاجئ للدولة العراقية الذي نجم عن انسلاخ الولايات العراقيَّة الثلاث عن الامبراطورية العثمانية المنهزمة في الحرب العالمية الاولى أورث هذه الدولة من الامبراطورية العثمانية الكثير من النظم والقيم والقوانين التي كانت سائدة فيها ومنها (نظام الملل) والتقسيم الديني والمذهبي والإثني لإدارة الدولة الذي انعكس في كتابة الدستور العراقي الأول لسنة 1925، والذي تأسست قبله وبموجب تلك التركة الوزارات العراقية الأولى وإداراتها. 
وهنا إذ تأسست الدولة الحديثة بتأثيرات وأنماط بريطانية وعثمانية فكانت بذلك دولة واضحة المعالم تسعى لبناء أمة كي تتشكل الدولة – الأمة التي تعبر عن الهوية الوطنية. غير أنَّ رصد ومعايشة الملك فيصل الأول لتجربة بناء الأمة توصل بها الى نتيجة سلبية مهمة بعد اثني عشر عاماً من حكمه، وهي: عجزه والمملكة عن تحقيق هدف الدولة – الأمة عبر توحيد تعددية فئات المجتمع العراقي الثلاث والتي دعته لإعداد مذكرته الشهيرة التي قدمها لقادة ومسؤولي الدولة عام 1932 لدراستها وإبداء الآراء حولها والذي يخص المشكلة بالقول إنَّ تلك الفئات او الكتل البشرية (المقصود الشيعة، السنة، الكرد) الثلاث للمجتمع يصعب توحيدها وجمعها في بوتقة واحدة من دون العمل على إيجاد نظم تربوية واجتماعية وسياسية تمهد لذلك (ت 1933).
وخلال العقود التسعة التي مرت على تأسيس الدولة العراقية الحديثة وما شهدته من تقلبات وتغيرات بنيوية على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تحقق تقدم نسبي ومهم في بناء الأمة وتعزيز الوحدة الوحدة الوطنية حتى انقلاب 17 تموز عام 1968، إذ تراجعت بقوة تلك المحاولة بعد ذلك.
أما بعد التحرير والتغيير عام 2003 وإقرار دستور العام 2005 فقد ترسخت أكثر التوجهات لإضعاف الهوية الوطنية العراقية الجامعة والشاملة التي أضعفت استطراداً، الوحدة الوطنية إذ نمت على حسابها الهويات الفرعية القومية والدينية والمذهبية والإثنية، والتي ساد بين عدد منها العداء والاحتراب فما هي أبرز التعبيرات عن ذلك ومظاهره، وهل يمكن، وكيف، إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة مع الاحتفاظ بخصوصيات الهويات الفرعية ووجودها في إطار تلك الهوية الأشمل؟ هذا ما سنعالجه في مقارنة 
قادمة.