الشاعر الذي اخترع له الكُتَّاب حياة

ثقافة 2024/12/22
...

  مبارك حسني

لم يعش إيزيدور دوكاس سوى أربع وعشرين عاماً مات في باريس عام 1870، بعد أن قضى سنوات شبابه النادرة في فندق، رفقة آلة بيانو مستأجرة. عاد من مونتيفيديو، الأوروغواي، حيث كان والده يعمل مستشارًا في قنصلية فرنسا هناك.

وفي باريس، جدَّد وثوَّر الشعر العالمي من دون وعي منه أو من العالم، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. 

ليس له من تلك الفترة سوى صورة باهتة فريدة يظهر فيها بوجه صغير فتيّ ونظرات تبدو حادة من دون يقين بما تراه على ما يبدو. 

كان يرتدي سترة وقميصًا بياقة تعكس أناقة غير متكلفة، أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى. وكان فقيرًا رغمًا عنه، إذ كان المال الذي يحتاجه للعيش يُرسل إليه عبر موثق عيّنه والده للإشراف على نفقاته وفقًا لاحتياجاته وليس على وفق إرادة الشاعر.

إيزيدور دوكاس لم يكن يقضي جل وقته إلا في الكتابة، وما تبقى منه كان ينفقه في كتابة بعض الرسائل لمتابعة طباعة ما كتبه من شعر. لم يكن هذا الشاعر يعيش لنفسه، ورغم ذلك دبّج الشعر الذي كسَّر كل القواعد.. الشعر الذي هو نثر في جوهره وشعر في مضمونه. 

شعر "منظوم" على وفق إيقاع داخلي يعكس ذاتًا تتأمل العالم بمناظير مزجت بين كيمياء غير مرئية وغير محسوسة، وبين أحاسيس بلغت درجة من الفوران والضغط الداخلي نتيجة تأثيرات خارجية، مثل النفاق المحيط وعدم القدرة على التكيف معه إلا من خلال الأداة الوحيدة الممكنة حين يموت كل شيء: الشعر.

كتب هذا الفتى الشعر الجديد، أو الشاعر "لوتريامون"، الذي استوحى هذا الاسم على الأرجح من رواية تحمل الاسم ذاته للكاتب أوجين سو. وهو صاحب الديوان "أناشيد مالدورور"، الشعري أو النثري. أشعار قاسية وقوية في آن واحد، مبتكرة وغير مسبوقة في المضمون والشكل. إنّها صوت شخص واحد، اسمه مالدورور، وقحٌ بجمال، جميل الوقاحة. يصرخ كتابة عن عالم لا يرحم، يقوم بتشريحه طولًا وعرضًا، كاشفًا عن وجود لا يتناغم مع الذات. وسم كتابه بـ "الفاكهة المُرّة"، محذرًا ضعاف القلوب من قراءته.

أطلق إيزيدور دوكاس هذه الصرخة، طبعها ونشرها على نفقته الخاصة عام 1869. اشتغله في غرفته بفندق "نوتردام دي فيكتوار"، ولم يكتبه إلا في الليل. يقول الكاتب أندريه مالرو: "كان لوتريامون بالكاد يتناول الطعام. لم يكن يكتب إلا ليلاً، بعد أن يعزف على البيانو ويشرب عددًا كبيرًا من فناجين القهوة التي كانت تثير حنق صاحب الفندق". 

الشاعر السوريالي فيليب سوبو يؤكد ذلك، بقوله: "كان متعودًا على الكتابة ليلاً، جالسًا بجانب آلة البيانو، في غرفته شديدة العتمة، المؤثثة بسرير وحقيبتين مليئتين بالكتب. كان يشرب القهوة بكثرة، يقرأ شعره بصوت عالٍ، مرفقًا بالموسيقى. طريقته هذه في النظم كانت تزعج رواد الفندق إلى حد اليأس من حمله على العدول عنها. كان في كل مرة يوقظهم على حين غرة من النوم". 

وعلى ذكر السورياليين، فهم من اكتشفه وأعادوه إلى دائرة الضوء، كما اكتشفوا رامبو من قبل. حين نشر رائعته الفريدة، نشرها في عزلة تواصليَّة استمرت أكثر من خمسين سنة، في تجاهل كامل. قال زعيم التيار السوريالي أندريه بروتون: "لقد تراءى لنا منذ الوهلة الأولى أن لوتريامون هو العبقري الذي لا يضاهيه أحد، وتأكد لنا، حين حضوره شاعرًا، وإن جاءت هذه اللحظة متأخّرة، إنها إحدى عجائب الزمن الذي أراد أن نكتشفه نحن". يا له من بوح يعكس عمقًا يجعل للسوريالية أصلاً بنفس العمق، لا يتطرق إليه الشك". 

يشبه الأمر سرًا مكنونًا كان مدخرًا، ينتظر من هو الأقدر على قراءة محتواه. أن يكون وراءه شخص اتسم بتنور خاص، هذا ما لا شكّ فيه، لكنّه يستدعي في الوقت نفسه التعرّف عليه. هذا المكنون لخّصه السورياليون في أن إيزيدور دوكاس يجسّد الفنان أو الشاعر الذي يأتي إليه الواقع المعاصر، ويتجسد فيه، وليس العكس. إنّه المراهق الذي يجهل تقريبًا كل شيء عن الواقع، ومع ذلك عبر عنه بأقوى ما يكون التعبير.


التراث الأدبي

الغريب أنّ المعلومات الحياتية والبيوغرافية الواردة أعلاه لا يستطيع أحد إثباتها بشكلٍ قاطع. الأمر الأكيد هو الكتاب التحفة والاسم المستعار على الغلاف، والعلاقة مع الأب. لذا، يستحيل الحديث عن بيوغرافيا وافية للشاعر الألمعي لوتريامون. إنه الكاتب الذي يمثل كتابًا لا أكثر.

"أناشيد مالدورور" تتكون من ستة أناشيد، وتمثل تمرّد المراهق الذي تغلّبت لديه قوة المخيلة على الواقع ذاته. بهذه الصفة المتفرّدة، "ابتلعت الأناشيد مئة سنة من الفكر الفلسفي والأدبي، من دون أن تفقد راهنيتها في التراث الأدبي الأوروبي. فهي تماثل كل النماذج الأدبية الممكنة، مع نسيان تام وعميق للذات". 

فالكتاب باروديا للأدب الرومانسي، حيث قلب ثيمة الألم الرومانسية وسخر منها (لنتذكر هنا رواية آلام فارتر ليوهان غوته، الذي نعته الشاعر بـ "المنتحر البكَّاء"). أضاف الكتاب ثيمة العبث، عبر اختيار أسلوب تجريبي غير مسبوق كان له أبلغ الأثر لاحقًا على الفلاسفة اللغويين والأدباء في القرن العشرين.

يتجاور في هذا الأدب الكتابة والفنون الجميلة، حيث تكثر التشبيهات الغريبة. لنأخذ أمثلة تتعلق بكلمة "الجميل": "جميل مثل قانون الحد من نمو الصدر لدى الراشدين، حيث النزوع نحو النمو لا علاقة له بكمية الجزيئات التي بمقدور جسدهم استيعابها".

"جميل مثل مخالب الطيور الكاسرة؛ أو تردد حركات العضلات في جراح المواضع الرخوة الموجودة في منطقة العنق الخارجية، وخاصة مثلما لقاء اعتباطي على طاولة تشريح بين آلة خياطة ومظلة". سمى أندريه بروتون هذا النوع بـ "الجمال المتشنج". 

هذه التشبيهات بقدر ما هي جديدة ومبتدعة بالكامل، تعلن أكثر مما يعلنه شكلها. إنها علامة على مضمون حاد وضاج بالمعنى. لأنها ببساطة، سفر في الظلمات، بلا بداية ولا نهاية. كراهية للإنسان، تعلق بالموت، مرافقة الحيوانات والكائنات الخرافية. كتاب علمي بوصفه الدقيق لبعض مظاهر الطبيعة، وصف لباريس بأحيائها الكالحة، وشتم لكل الكتّاب المعروفين بأوصاف غير رحيمة. إنه لاوعي شاعر مضطرب، متحرّق، غير متحقق، حوّل كوابيسه إلى درر أدبية عالية النبرة. ومن مقتطفات من أناشيد مالدورور:

شاهدت رجالًا

"شاهدتُ خلال سنينِ حياتيَ الرِّجالَ ذَوي الأكتافِ الضَّيِّقةِ وهم يقومونَ بسلوكات غبيَّةٍ كثيرةٍ، يُفْسِدونَ الأرواحَ بشتَّى الوسائلِ، ويُسَمُّونَ دَوافِعَ أفعالِهمْ هذهِ: الشُّهْرة. فأردتُ أن أضحكَ، مثلَ الآخرينَ، وأنا أتفرَّجُ على هذهِ المشاهدِ، إلا أنَّ هذهِ المحاكاةَ الغريبةَ بدتْ لي مستحيلةً. حينها أخذتُ سِكِّينًا شُحِذَتْ بالكاملِ، فَسَلَخْتُ البَشَرَةَ التي تنتهي عندَ مُلتقَى شفتيَّ. ظننتُ للحظةٍ أني بلغتُ مُرادي، لكن حين رأيتُ في المرآةِ هذا الفمَ المكلومَ بيدي عن سابقِ تصميمٍ، عرفتُ أني أخطأتُ! فالدمُ الذي كان يسيلُ مِدرارًا حالَ دون أن أتحقَّقَ أنَّ ضحكي ليسَ سوى ضحكِ الآخرينِ".


حبٌّ جائعٌ 

"لنتذكَّرْ تلكَ المخلوقاتِ الخياليةَ، ذاتَ الطبيعةِ الملائكيَّةِ، التي يلمعُ منها بريقٌ. المخلوقاتُ التي أخرجها قلمي من دماغي، عندما دبَّجْتُ النشيدَ الثاني، تموتُ عند الميلادِ، مثلما تموتُ الشراراتُ التي يشقُّ على العينِ تتبُّعُ انمحائها السريعِ على الورقِ المُحترقِ! ... يكفي أنَّني سأتذكَّرُكُنَّ".