وائل الملوك
كشف المخرج والكاتب الكويتي سليمان البسام، مع فرقته "سبب" خلال عرض مسرحية "صمت" على خشبة مسرح المنصور من ضمن عروض مهرجان بغداد الدولي للمسرح، عن قوة الخطاب الفني المسرحي في تعرية التحالفات الجيوسياسية في المنطقة العربيّة خصوصا بعد جرائم الإبادة المستمرة في غزة.
وتناول البسام في فضائه المسرحي، مجريات الأحداث التي جرت في لبنان "انفجار مرفأ بيروت الكبير في 4/آب من العام 2020"، والذي وصف من قبل الخبراء والمختصين بأنه أكبر انفجار غير نووي في التاريخ. انفجار كشف وجه الفساد السياسي وانسداد الأفق والأزمات الاقتصادية والاجتماعية وحلقات العنف المركبة، وكل نواتج تهميش الإنسان والمجتمع، والبيئة المقصود بها هنا ليست في بيروت وحدها، بل في معظم المدن العربيّة.
العرض ابتدأ بخطاب من الكاتب والمخرج سليمان البسّام إلى الجمهور، أوضح فيه الظروف التي جعلته يسعى لكتابة النص، ومن هما الخبيران اللذان استعان بهما في توثيق نوع وسبب الانفجار، عبر إظهار أصواتهما التسجيليّة من ضمن مجريات العرض، وهم كل من "المهندس الكيماوي الأميركي راسل أوغل، وهو متخصص في التحقيق في الحوادث وتقييم أخطار الانفجار، والعميد اللبناني المتقاعد إلياس فرحات الباحث العسكري والاستراتيجي".
كسر الحاجز
خلق المخرج عبر وضع ثلاث منصات ثابتة على شكل مشابه للمثلث، محورًا ثابتًا للأداء السردي بعيدًا عن الحركات العشوائيّة، وإلى جانب طرفي المسرح يمينًا ويسارًا طلب من الجمهور الاعتلاء على الكراسي المخصصة لكسر الحاجز الرابع المتعارف عليه، وجعل الممثلة البطلة السورية حلا عمران من تقديم عرضها بتكنيك الممثل الواحد على الرغم من وجود عازفين مساعدين وهما من لبنان "عبد قبيسي وعلي الحوت" في الجانبين، لبناء أجواء درامية بينها وبين المتلقي مباشرة، وخصوصًا أنّها في إحدى مشاهدها تشارك الجمهور في الغناء معها لإحدى الأغاني الملحميَّة لقصيدة "منتصب القامة أمشي" شعر سميح القاسم وألحان وأداء مارسيل خليفة.
هنا نجد أنَّ المخرج البسّام نجح في تقديم توليفته المسرحية والمعاصرة في شكلها ومضمونها، عبر خوض تجربته المسرحية بأسلوب تجريبي ومباشر، وفي الوقت نفسه تحت منظور المسرح السياسي والاستقدام بالمسرح الساخر، من خلال مشاركة الجمهور في الحدث المسرحي، وأنه تمكن من التوازن بين الفن والثيمة السياسية التي حققت تأثيرها المقصود، وهي تعد تجربة مهمة ومتميزة على بقية العروض التي دائمًا ما نشاهدها.
وهذا النوع من العروض يسعى لمعالجة القضايا السياسية والاجتماعية من خلال تحفيز الجمهور للتفكير والتمعّن في مجريات الأحداث التي يمرون بها، أو قد يسمعون إليها بشكل درامي وشاعري، والهدف منها إثارة الوعي ونقد السياسات والتحديات الاجتماعية بأسلوبٍ واعٍ بعيدًا عن التخبّط، والاحتجاج بطريقة تعبير سلميَّة حتى وإن كانت تحت مسمّى "الصمت"، فالصمت هنا قد يكون أداة للتغيير الجيواجتماعي قبل السعي للتغيير الجيوسياسي، وتكتسب بلاغتها من قدرتها على ايصال الرسالة العميقة والمؤلمة لزمن صار فيه الكلام بلا معنى.
وإنَّ هذه التجربة استخدمها بريشت في مسرحياته الملحميَّة، واعتمد على خلق التغريب لإبعاد الجمهور عن التفاعل العاطفي ودفعهم للتفكير النقدي.
أما في المسرح العربي، فقد برزت في الستينيات والسبعينيات على خشبة المسارح المصريَّة، وكانت أبرز الأعمال لنجيب سرور ويوسف ادريس التي تناولت معالجة القضايا السياسية والاجتماعية، وهي مدرسة مستمرة في العطاء لكن تبرز فقط لمن يتمكّن من إتقانها.
الانتقالات الأدائيَّة
أثارت الممثلة السورية حلا عمران عبر أدائها المتراوح ما بين السرد الشعري، والتأمل والانفعال، والهدوء والصخب، والحركة والسكون، والاستعانة بالكوميديا الساخرة في أدائها. دهشت الاندماج بلا ملل، فالجمهور هنا كان ينتظر الانتقالات الانفعالية في الأداء مع الارتكاز على مضمون الحوار، وأما لحظة الغناء وإشراك الجمهور معها، فقد أثارت لدى الجمهور الحافز الثوري العربي، لتنهض بالسكون الذي يتستّر في الداخل وتجعله شريكًا في ايصال فكرة العمل.
فيما كانت للموسيقى فلسفة مغايرة عمّا نسمعه من مقطوعات، ولها دور كبير في إيصال الفكرة، وخصوصًا أنّها لم تتوقف اثناء العرض وكانت عنصرًا أساسيًا ومساعدًا للأداء التمثيلي، فقد صنع العازفان عبد قبيسي وعلي الحوت موسيقى حملت عنوان "التنين"، لكنني استمعت في أسلوبهما مزجا هارمونيا بالإيقاع "الدرامز" المشابه للقبائل الامازيغيّة العربيّة والأفريقيّة والتي يتواجد بعضها في الجزائر والمغرب، ولحظة أخرى يقدمان على صنع ايقاع الروك والجاز الغربي، إلى جانب الاستعانة بمقطوعة غنائيّة عربيّة كما ذكرنا سابقا.
أما سينوغرافيا الإضاءة فكانت من تصميم الفرنسي "إيريك سواييه" وقد صنع صورة لونيّة واحدة بتدرجاتها، لتبرز أداء الممثلين المتواجدين إلى جانب الجمهور الذي اعتلى الخشبة في الجانبين، وأعتقد أنّها كانت موفقة مع رؤية المخرج وطريقة الأداء على الخشبة.
عرض "صمت" تمكن من أن يصنع معالجات فكريّة مهمة للواقع الاجتماعي والسياسي بأسلوب متقن من خلال إثارة السكون لدى المتلقي، ليفكر في التساؤلات التي طرحها المخرج من خلال عمله، أبرزها: أين نحن من هذا الانفجار الكبير؟ من هو الذي صنعه؟ ولماذا المكان كان مرسى بيروت؟ وهل ستعاد صناعته في بلداننا وسط السكوت السياسي؟ وهل سنعيد توقيت الأحداث العشرة الأخيرة قبل أي انفجار يحدث عبر عرض مسرحي؟ أم أن العرض سيكون بلا جمهور؟.