حين يكون الجدار سلطة والفكر محنة

ثقافة 2024/12/23
...

  د. عواطف نعيم*

ليس العمل في المسرح جديداً على الفنان سنان العزاوي، فهو منذ تفتحت عيناه يجول ويلعب بين كواليسه ويتأرجح ويمرح تحت أضوائه ويصغي لحوارات الكبار، وهو يلتصق مثل تلميذ نهم للتعلم في أحضان والده المخرج الكبير محسن العزاوي،  لذا حين ولج هذا السنان فضاء المسرح كان عارفاً وواعياً لقسوة ذلك الفضاء على الجاهل الدعي ورحابته مع المتعلم الواعي والمنتمي للتجربة المسرحية.

لم تكن مسرحية الجدار التي قدمت من على فضاء مسرح الرشيد، والتي انتجتها الفرقة الوطنية للتمثيل في دائرة السينما والمسرح  هي التجربة الأولى له، بل سبقتها تجارب مسرحية ميزتها الجرأة والبحث وروح المغامرة التي لا تعرف التردد، ولا تخشى الخروج عن المألوف وكسر السائد. يبدأ السنان بفكرة تكبر في عقله وتتجسد عبر مخيلته ويباشر بعدها البحث عمن يضع تلك الفكرة في قالب يتخذ شكل نص يضم شخصيات ويرتكز لأحداث تبدو في أحيان كثيرة عصية على الامساك بها مراوغة متخفية، لكنه مع الكاتب يمسكان بها مثل صيادين ماهرين يمسكان بسمكة زلقة تحاول الافلات نحو عمق لجة كي تختفي من دون أن تستطيع ذلك.
وفي مسرحية الجدار التي أرادها منطقة للبوح والكشف والوجع كانت سمكات المخاوف المتراكضة الفارة من سنارة الصياد ويداه متواجدة تدور في فضاء البوح وتضرب أمواج الضوء لتزيح عتمة الصمت، جمع هو السنان ابن العزاوي  والماهر حيدر جمعة مجموعة من الحيوات الموجعة وأزاحا اللثام عن حقائق فاجعة ليعريا عبر البوح الإنساني المفجوع  عن مآسٍ وأمراض يئن تحتها بشر صامتون من خلال أصوات أنثوية لها أقنعة تلّم خلفها وجوها باكية ووجوها خائفة ووجوها مسها الضر وغاب عنها الصواب، أن تقود أربع عشرة أنثى وتقذف بهن في نهر عذابات صعبة وموجعة لهو أمر ليس بالهين وبعضهن يعملن لأول مرة، أن تتصدى لتعرّي فسادا ينخر في جسد مجتمع ويتآكله من الداخل  وهو معيب عن واقعه لهو أمر ليس بالسهل، أن ترفع صوتك لتعلن من داخل فضاء ميزته الحرية بأنك مقموع وأن "السوشيل ميديا" التي تضج بالأكاذيب من حولنا لها وجهان لمن يدفع أكثر ولمن يملك مقاليد الأمور ويتحكم بالقوانين لهو فعل جليل ومحذور! أن ترفع أصبع الاتهام بوجه من أخطأ وتحمّله مسؤولية الضحايا من دون أن تتردد لهو عمل جريء رغم خطورته.
كان فضاء مسرح الرشيد سجنا كبيرا تحيط به الجدران، وهي جدران متحركة ليس حول أجساد الشخصيات على الخشبة، بل هي جدران تحيط بقلوب وأرواح الشخصيات داخل الاجساد ذاتها فقد تمكنت تلك الجدران من النفوس بفعل الخوف والخجل والصدمة فغلفت أرواحهن قبل أن تحيط بحياتهن  فتغلقها، وما بين عزف موسيقي على آلة البيانو انساب عزف نسائي بإيقاع من الغضب والتمرد والبوح المفجوع كأن فضاء مسرح الرشيد سجناً أمتد إلينا ليحيط بنا عبر ذلك البوح الذي غزا قلوبنا وعيوننا كي نطلع على المسكوت عنه، والذي نحسه ونعرفه، والذي ندركه ونعبره بصمت العازف عن الفعل والمتغاضي عن ضراوته فكان أن امتزجت الصالة بالخشبة. وظف المخرج السنان كل إمكانات المسرح وفرش كل منظومات الضوء داخل فضاء العرض ليتجول معنا خلال ساعتين ونصف الساعة في رحلة للبوح المتلوي عذابا والراقص مذبوحا، وكي يضفي على المسرح ومن فيه جوا نفسيا أسكت كل الأصوات إلا الصوت الاوبرالي وصوت البيانو والصوت البشري بعزفه وانفلاتاته النفسية والجسدية واستعان بعروض "الداتا شو" ليغور في عمق اللجة ويبّرز الصورة الخفية والمضببة لما يتم البوح به، وحين ارتفع جسد الممثلة معلقا في فضاء المسرح، فلأن غفلة العقل حين التخدير تطيح بالوعي فيصبح الجسد خاويا والعقل فارغا وتضيع بوصلة الفرز ويتطاير الجسد المفرغ من الادراك مثل بالونة مسكونة بالهواء والفراغ، كانت هيمنة  المخرج السنان على كل مفاصل العرض واضحة وبينّة فقد تحكم بمهارة العارف بروح الايقاع ونبض التدفق من دون الوقوع في التكرار.
وجاء التركيب المشهدي للوحات العرض المتتالية بدلالة ومعنى من دون الاغراق في التوضيح، أو الاطالة في الشرح، لكن الثورة حين تنبثق والنفوس تحت وطأة الظلم حين تنهض، فهي تبحث لها عن وجه وعن حضور، لذا لا يمكن أن يكون المثلي قائدا لثورة وهو أمامنا يبوح بمتعته حين  يغتصب وهو يتلذذ بفعل الاغتصاب والتحول من فاعل إلى مفعول به من دون أن يتوقف ولو للحظة ليرفض أو يتمرد على ذلك التحول الجسدي!
كان لابد للثورة التي ما أن بزغت بوادرها حتى أحاطها ملوك الرومان بالجدران والعسكر أن تنهض بها واحدة من الضحايا ممن أمتلكن ولو القليل من روح التمرد والرفض، كأن تكون تلك  الراقصة التي فضحت السياسي أو التي قتلت الزوج الذي كان يتاجر بها لتحقيق رغباته، ضاعت الثورة حين أختلّت البوصلة فأصاب العمى جميع الضحايا وتحول الآخرون المختفون والمتربصون إلى مجموعة من الجوكرية تتبع الجوكر الفرد  والصوت الواحد ومن يملك زمام القرار! وغاب الضحايا وراء جدران الخوف والردع والسلطة القامعة أو غيبوا! في هكذا عروض مسرحية تكون القراءة مفتوحة أمام التأويل والاسقاط وتتضارب فيها التفسيرات وتختلف فيها الآراء والتصورات، فالعرض يصب في قضايا كثيرة ليس أولها الفساد وليس آخرها الحرية فما بين الاثنين الفساد والحرية تتوإلى أمامنا العديد من الطروحات والاتهامات وانحراف القوانين وانتهاكها، لكننا نقف في هذا العرض مع مخرج أراد أن يقول ما لديه وأن يطرح عن كاهله ما ينوء به من ثقل فيقدمه لنا كي نقف معا لأجل التغيير والرفض  والبحث عن البدائل والخروج من شرنقة الصمت والتغاضي أوليس هذا هو فعل المسرح التنويري؟
نحن أمام عرض مسرحي مغاير وجديد يحمل لنا ويقدم كل ما هو مسكوت عنه، ويطويه الحذر ويعلن عن عافية المسرح العراقي الذي أسس له رواد وأساتذة كبار وأرادوا له أن يكون مغايرا ومنبرا حرا للبوح والتعبير، تجربة جدار المسرحية للمخرج المجدد سنان العزاوي الذي هيمن على فضاء المسرح، وقاد جموع الممثلات والممثلين بحرفية ووعي مسؤول لهي تجربة ثرية ومفرحة وتعد إضافة مميزة للمسرح العراقي ولمن يعمل فيه من أجيال شبابية ميزتها البحث والتجريب والاجتهاد والاشتغال على الجديد.
*  كاتبة ومخرجة مسرحية